أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، فبتقوى الله تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وأكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.
معاشر الإخوة، الخير في الإسلام ينتظم كل وجوه البر، ويشمل كل عمل صالح، ويتناول كل خلق كريم، طاعةً لله عزَّ وجلَّ، وحباً في الفضائل في إخلاصٍ وصدقٍ حسنٍ.
ففي الحديث قولٌ جميلٌ، وفي البلاء صبرٌ جميلٌ، وعند الخلاف صفحٌ جميلٌ.
أقوالٌ وأفعالٌ تغرس المحبة، وتورث المودة، وتوثق الروابط، نجدةٌ وإغاثة، وتراحمٌ وملاطفةٌ، وإخلاصٌ ووفاءٌ، مشاركةٌ في السراء، ومواساة في الضراء، كل ذلك من توجيهات الإسلام، ونواميس الأخلاق.
أيها الإخوة، ويتجلى صفاء الدين، وتظهر محاسن الشريعة، أكثر ما تتجلى في خلقٍ كريمٍ، وسلوكٍ مستقيم، ينتهجه المسلم مع إخوانه، القريب منهم والبعيد.
إنها أخلاقٌ كريمة، ولكنها في ذات الوقت حقوقٌ محفوظة، عُني الإسلام بها وحثَّ عليها، ودعا إليها، ورسم منهاجها، وأوضح آدابها.
وفي مثل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((حق المسلم على المسلم ستٌ)) قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه)) في حقوق أخرى كثيرة حفلت بها سنة المصطفى قولاً وعملاً وتوجيهاً.
ولقد كان من أدب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه، وإن كان مريضاً عادوه.
يقول الأعمش رحمه الله: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عدناه.
وفي عيادة المريض ـ أيها الإخوة ـ يتجلى سموُّ الخلق، وحفظ الحق حين يكون أخوك في حالةٍ من العجز، وانقطاعٍ عن مشاركة الأصحاب، حبيس المرض، وقعيد الفراش.
في عيادة المريض إيناسٌ للقلب، وإزالة للوحشة، وتخفيفٌ من الألم، وتسليةٌ للنفس والأقارب.
وفي توجيهات المصطفى حثٌّ عظيمٌ على حفظ هذا الحق، والالتزام بهذا الخلق، ومراعاة آدابه.
أخرج الإمام أحمد ومسلمٌ واللفظ له والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع)) قيل: يا رسول الله، وما خُرفة الجنة؟ قال: ((جناها)) – أي: ثمارها.
وفي حديث قدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: ((يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)).
و((ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة)).
وفي موطأ مالك بلاغاً ومسند أحمد مسنداً واللفظ له، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها)) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)) أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له.
ومن أدب الزيارة أن يقف عند رأسه ويضع يده على جبينه أو على مكان الألم ويقول: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) فقد كان نبيكم محمد يفعل ذلك.
كما كان عليه الصلاة والسلام يرشد إلى ما يتعوذ به من الألم. يقول عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على النبي وبي وجع قد كان يبطلني فقال لي النبي : ((اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. سبع مرات)) فقلت ذلك فشفاني الله.
وينبغي أن يجتهد له في الدعاء، ومما ورد في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشـف عبدك ينكأ لك عـدواً، أو يمشي لك إلى جنازة))، وفي رواية((صلاة)). ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً)).
وقد عاد جبريل النبي وقال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
ومن الآداب المرعية: ألا يطيل الزيارة، ولا يثقل بكثرة المساءلة، وإطالة الحديث، ولا يذكر له ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر صديقاً له بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له.
وإن في الإطالة إثقالاً على المريض، ومنعاً له من تصرفاتٍ قد يحتاج إليها.
قال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه، فأطالوا الجلوس: المريض يعاد، والصحيح يزار.
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. ويقول سفيان الثوري: حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ، ويطيلون الجلوس.
وإذا كان المريض يحب تكرار الزيارة، ولا مشقة عليه فلا بأس، ومردُّ ذلك إلى الطبائع ومقتضيات الأحوال، وقد يأنس ببعضٍ من قريب أو صديق حميم، ويملُّ آخرين. وإذا طمع الزائر في شفاء المريض صبَّره وبشَّره، وساعده في التمريض وإحضار الطبيب، وفي قضاء حوائجه التي يعجز عن الوصول إليها، وطيَّب نفسه وسعى في إدخال السرور عليه، وفتح أبواب الأمل لديه.
وقد وصف الحسن رحمه الله المريض فقال: أما والله ما هو بِشَرِّ أيام المسلم، قورب أجله، وذكِّر فيه ما نسي من معاده، وكُفِّر فيه عن خطاياه.
وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا، إن الله قد ذكَّرك فاذكره، وأقالك فاشكره.
فهذه الأسقام والبلايا كفاراتٌ للذنوب، ومواعظ للمؤمنين، يرجعون بها عن كل شرٍَ كانوا عليه.
ويقول الفضيل: إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد.
ليس كل من مرض مات. وعُدَّ من ذلك قوله تعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
وإذا يئس من حاله ذكَّره بالله، ورغَّبه فيما عنده، وحسَّن ظنه بربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة، ويفتح له أبواب التوبة، واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار، وكل ما يقرب إليه، ويذكره بالوصية، فهي لا تقطع أجلاً، وإنما تحفظ بها الحقوق، وتقضى بها الديون، ويَتوصل بها أهل الحقوق إلىحقوقهم.
لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس ـ وكأنه يجزعه ـ: ((يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبابكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منَّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عزّ وجلَّ قبل أن أراه)) رواه البخاري من حديث المسور بن مخرمة.
وفي البخاري أيضاً من حديث القاسم بن محمد أن عائشة – رضي الله عنها – اشتكت؛ فجاء ابن عباس فقال: ((يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق، على رسول الله وعلى أبي بكر)).
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، قوموا بها على وجهها، راعوا آدابها، وحققوا مقاصدها، يعظمِ الأجر، ويصلحِ الشأن، ويفشُ الخير، وتَسُدِ المودة.
اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا حوبنا وخطايانا يا رب العالمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|