أيها المؤمنون، أيام ويستبشر المؤمنون بدخول عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام، ففي الحديث: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع فيها أداء مناسك الحج الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه.
ومن تأمل في شعائر الحج وحِكمه التي يشتمل عليها رأى الحكم الباهرة والعظات البالغة والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع.
ففي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتهم وأفعالهم في زمان واحد ومكان محدّد، لا يتميز فيه قوم عن قوم، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ [البقرة:199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو استغلّ هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجبًا.
ومن حكم الحج وفوائده التي تظهر للمتأمل تذكر الدار الآخرة، فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميت يجرد من ثيابه، وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى، والميت يغسل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يكفن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداء وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يبعث الناس ويساقون إلى الموقف، يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [المطففين:6]، إلى غير ذلك من الحكم والمقاصد والعبر التي تعظ وتذكر.
أيها المسلمون، للحج فضائله ومكارمه، وفيه أجر عظيم ووعد كريم، ولكن هذه همسة في أذن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويعلم أن الحج خامس أركان الإسلام التي لا يكمل إسلام العبد إلا بأدائها، ثم تراه يتقاعس ويكسل عن أداء فريضته التي أوجبها الله عليه، فمن مفرّط في الأمر لا يبالي به، ومِن مسوّف يمني نفسه ويعدها، ويمر به موسم الحج تلو الموسم وهو يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى، ولم تسعفه نفسه بعزيمة تبطل كيد الشيطان الذي يلبِّس عليه ويريه أن الحج رابع المستحيلات ورأس المستصعبات وكبير المشقات، وأن الذاهب إليه مفقود والعائد منه مولود، ويعرض على ناظريه صور المتاعب والمحن التي قد تحصل، وكأن الحجيج إنما قدموا للحرب والضرب، بل إن البعض من المسلمين تراه يسافر في مشارق الأرض ومغاربها يطوي الفيافي والقفار وربما تعرض للأخطار في بلاد لا يسمع فيها الأذان في سبيل التنزه والفرجة والسياحة، وربما أنفق النفقات الباهظة بنفس سمحة ويد سخية، غير أنه إذا ذكِّر بالحج دب إليه الفتور وشعر بالتثاقل وتكاثرت أمامه الأعذار التي يتحجج بها.
فيا ليت شعري، هل أدرك هذا الصنف من المسلمين خطورة ما هم صانعون؟! لا سيما إذا كانوا ممن وجب عليهم الحج وتحققت فيهم شروطه، كيف يهنأ لأحدهم العيش وهو يسمع نداء ربه: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]؟! ألم يسمع هؤلاء قوله جل وعلا: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ [آل عمران:97]؟! إنهم جميعًا يحفظون قوله : ((بني الإسلام على خمس)) ويعرفون هذه الأركان الخمسة جيدًا، وهل سمع هؤلاء قول عمر الفاروق: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا من كان له جِدَة ـ يعني القدرة على الحج ـ ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في سننه؟! بل إنه يقول فيما صح عنه: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا) وروي كذلك نحوه عن علي بن أبي طالب .
عباد الله، الحج واجب على كل مسلم مستطيع مرة واحدة في العمر، وذكر أهل العلم أن الحج يجب فورًا على كل مسلم عاقل بالغ حر مستطيع للحج يملك الزاد والراحلة، وقد ذكر أهل العلم أن القادر على الحج هو من يتمكن من أدائه جسميًا وماليًا بأن يمكنه الركوب ويطيق السفر ويجد من المال بُلْغته التي تكفيه ذهابًا وإيابًا، ويجد أيضًا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، وذلك بعد قضاء الديون وأداء الحقوق الواجبة.
فإن كان من وجب عليه الحج قادرًا بماله دون بدنه كالكبير الهرِم أو المريض مرضًا مزمنًا لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر العمرة الواجبة والحج الواجب؛ لما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: ((حجي عنه)) متفق عليه.
ولا يجب الحج على المرأة إلا بوجود محرم لها.
والحج واجب على الفور، ويحرم تأخيره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يقول فيما صح عنه: ((تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد بسند صحيح وهو في صحيح الجامع، ويقول أيضًا: ((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)) رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن وهو في صحيح الجامع، ويقول آمرًا أمته: ((أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) رواه مسلم.
فلنكن على علم بهذا يا عباد الله، وليبادر من فرط في هذا الأمر قبل فوات الأوان، فكم مفرط قد ندم، وكم متهاون فوجئ بحبل عمره قد انصرم، وكم سمعنا من يستفتي عن قريب له توفي ولم يحج، وخير لكل مسلم أن يؤدي فرضه ويحظى بأجره قبل أن يحج عنه إما لوفاته أو لعجزه، ثم هل يستوي من حج بنفسه راضيًا راغبًا ومن حج عنه ذووه بعد أن مات ولم يحج فرضه بعد أن كان مستطيعًا قادرًا؟! حيث إن من مات قبل أن يحج فرضه وقد تحققت فيه شروط وجوب الحج وجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه.
عباد الله، في الحج من الفضائل ما يحدو النفوس ويجعل القلوب تهفو إلى بيت الله العتيق، فقد سئل النبي : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.
والحج كفارة للذنوب، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم. والحج المبرور جزاؤه الجنة: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) رواه البخاري ومسلم. فيا سعادة من فاز بهذا الأجر فلبى نداء ربه وحرص على أداء فرضه.
اللهم اجعلنا من عبادك المنيبين الطائعين المبشَّرين بقولك سبحانك: فَبَشّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ [الزمر:17، 18].
وسبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.
|