أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.
أيها الإخوة المؤمنون، في هذه الأيام يستقبل المسلمون شهر ذي الحجة، الشهر الذي فيه يحَجّ إلى بيت الله الحرام.
أيام ـ أيها الإخوة ـ وتبدأ أعمال الحج، الحج الذي جعله الله فريضة على من استطاع إليه من عباده، يقول جل جلاله: وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ [آل عمران:97]، ففي هذه الآية الدليل على وجوب الحج، على من؟ على من استطاع إليه سبيلا، أي: من ملك زادًا وراحلةً وصحةً وأمنًا. نعم أيها الإخوة، السبيل هو الزاد والراحلة والصحة وأمن الطريق، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ.
وقد بين الرسول أن الإسلام الذي هو ديننا، بين أنه مبني على أركان خمسة، لا يقوم إلا بها، ولا يكمل إلا بتواجدها، من هذه الخمسة الحج، ففي الحديث يقول : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان))، وفي حديث جبريل عليه السلام حينما سأل النبي فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)).
أيها الإخوة المؤمنون، فالحج ركن من أركان الإسلام، فرض على هذه الأمة في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة، فعله النبي مرة واحدة عرفت بحجّة الوداع، وحكمه الوجوب مرة في العمر على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، وقد جعل الله عدم القيام به ممن استطاع عليه بمثابة الكفر كما سمعتم في قوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ؛ لذا ينبغي للمستطيع المبادرة لتأدية فريضة الحج وجعل الحج في مقدمة الاهتمامات.
على المسلم أن يحذر التقاعس والتسويف، ويؤدي فريضة الحج؛ لأنه لا يدري ماذا يحدث له، يقول النبي : ((من لم تحبسه حاجةٌ ظاهرة أو مرض حابس أو منع من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا))، ومما أثر عن السلف أنهم كانوا يبادرون لتأدية فريضة الحج، ويحذرون من تأخيرها، اسمعوا لما يقول عمر بن الخطاب : (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جِدَه ـ يعنى غنيًا، لديه مال ـ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين). هذا قول عمر، وأما علي فقد قال: (من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى البيت ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا).
فالله الله أخي المسلم، بادر لإكمال دينك وإتمام أركان إسلامك، قم بهذا الركن العظيم، وإياك والتسويف والتأجيل. اغتنم ـ يا عبد الله ـ غناك قبل فقرك، وصحتك قبل مرضك، وشبابك قبل هرمك، بل اغتنم حياتك قبل موتك.
أيها الإخوة المؤمنون، وعلى من عزم على الحج أن يحرص كل الحرص أن يكون حجه مبرورًا؛ لأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة كما أخبر بذلك النبي .
ولا يكون الحج مبرورًا إلا إذا توفرت فيه عدة شروط، منها الإخلاص وهو أهمها، فيكون الحج خالصًا لوجه الله، لا لطلب مال، ولا لطلب جاه، ولا لطلب لقب، ولا للنزهة وسعة الصدر مع الزملاء، لا، إنما يكون بنية التقرب إلى الله تعالى وللوصول إلى دار كرامته، يقول عز وجل: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ [البينة:5]. الحج كغيره من الأعمال التعبدية، لا يكون مقبولاً ولا مبرورًا إلا إذا توفر فيه الإخلاص.
ومن شروط الحج المبرور المال الحلال، أن يكون بمالٍ حلال؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد جاء أن الرجل إذا حج بنفقة طيبة ـ يعني حلال ـ ثم وضع رجله ثم نادى: لبيك اللهم لبيك ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك وعمل مقبول غير مردود مأجور غير مأزور، هذا متى؟ إذا كانت نفقته التي يصرف منها في رحلة حجه من حلال. وأما إن كانت نفقته من مال خبيث، من مال حرام، فإنه إذا وضع رجله ولبى ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك وعملك مردود عليك. فالنفقة الطيبة شرط من شروط كون الحج مبرورًا.
ومن الشروط أيضًا أن يكون الحج وفق ما جاء به النبي ، أليس هو القائل: ((خذوا عني مناسككم))؟! بلى أيها الإخوة؛ لذا إذا كان على غير هدي النبي من أين له أن يكون مبرورًا؟! وكيف يكون ذلك والنبي يقول: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود على عامله؟!
أيها الإخوة المؤمنون، فالإخلاص والنفقة الطيبة ومتابعة الرسول بذلك يكون الحج مبرورًا، ليس له جزاء إلا الجنة.
ومن فوائد الحج العظيمة مغفرة الذنوب وحط الخطايا، ولكن لن يتهيأ ذلك إلا عند خلو الحج من الرفث والفسوق، فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما جاء في الحديث.
وخير معين ـ أيها الإخوة ـ على الحج الخالي من الرفث والفسوق الرفقة الصالحة، نعم الرفقة الصالحة، فلتحذر ـ أخي الحاج ـ رفقة السوء الذين شبه النبي أحدهم بنافخ الكير، فهو إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه الرائحة الخبيثة. فاحرص ـ أخي الحاج ـ على رفقة صالحة، يعينونك على تأدية حجك، ويعينونك على نفسك والشيطان.
وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ [الحج:27، 28].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|