قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:6-9].
أيها المسلمون، يذكر المفسّرون أن هذه الآيات جاءت على الأغلب بصدد استقبال أهل الكتاب للنبي الذي بشّرَت به كتُبُهم، والتنديد بهذا الاستقبال، وكيدهم لهذا الدين الجديد الذي قدّر الله تعالى أن يُظهِره على الأديان جميعها، وأن يكون الدين الأخير، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
أيها المسلمون، لقد وقف بنو إسرائيل في وجه هذا الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتّى الوسائل والطرق حربًا شَعْوَاء لم تضع أوزارها حتى اليوم. فقد حاربوه بالاتهام، حيث قالوا عن القرآن الكريم: إنه سحر مبين، وعن رسول الله بأنه ساحر، وحاربوه بالدّسّ والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين قبيلتَي الأوس والخزرج من الأنصار، وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة، ومع المشركين تارة أخرى، وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين من الأحزاب، وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي بن سلول، ثم جرى في فتنة عثمان بن عفان على يد عبد الله بن سبأ، وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسّوها في الحديث والتفسير، وذلك حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم.
أيها المؤمنون، والملاحظ أن هذه الحرب المستعِرَة لم تضع أوزارها لحظة واحدة، بل هي قائمة ومستمرة حتى وقتنا الحاضر، فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية الحاقدة على الكيد للإسلام وأهله، وظَلّتا تُغِيران عليه أو تُؤلّبان عليه بصورة لم يسبق لها مثيل ومن غير توقّف.
حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق، وحاربوه في الأندلس في المغرب، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حربًا شَعْوَاء حتى مزّقوها، وقسموا تركة ما كانوا يسمّونه بالرجل المريض، واحتاجوا أن يصنعوا أبطالاً وهميين ومزيفين في أرض الإسلام يعملون لصالحهم، ولتنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضدّ الإسلام، وقد نجحوا في ذلك، حيث أجهزوا على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي.
وهم يكرّرون صنع هذه البطولات المزيّفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام في بلد من بلاد المسلمين؛ ليقيموا مكانه عصبيّة غير عصبيّة الدين، وراية غير الدين، مصداقًا لقوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وذكر المفسّرون أن سبب نزول هذه الآية أن النبي أبطأ عليه الوحي أربعين يومًا، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود، أبشروا فقد أطفأ الله سبحانه وتعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أيها المسلمون، إن هذه الآية الكريمة تُعبّر حقيقة وترسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرِّثَاء والاستهزاء، فقد كان هؤلاء يقولون بأفواههم عن القرآن الكريم وعن الرسول : هذا سحر مبين، ويدسّون ويكيدون محاولين القضاء على هذا الدين الجديد، إنها صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم الضعفاء، كمثل الذي يريد أن يطفئ شعاع الشمس بِفِيه، وهذا أمر مستحيل، فقد صَدَق وعدُ الله تعالى حيث أتمّ نوره في حياة الرسول ، وأقام الدولة الإسلامية صورة حَيّة من المنهج الإلهي المختار، صورة حقيقية تترسّمها الأجيال على أرض الواقع، وأكمل للمسلمين دينهم، وأتمّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا يحبونه، ويجاهدون في سبيله، فتمّت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء، وما تزال هذه الحقيقة تظهر بين الحين والآخر على الرغم من كل الحروب التي تُشَنّ على الإسلام والمسلمين؛ لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد الموجودان في أيدي البشر، وإنْ خُيِّل للطغاة الجبّارين وللأبطال المصنوعين أنهم بالِغو هذا الهدف البعيد.
لقد جرى قَدَرُ الله أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون، هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، ولقد تمّت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله، ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله، فدانت له معظم المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان، ثم اتسعت الفتوحات الإسلامية حتى وصلت إلى قلب آسيا وإفريقيا، ودخل فيه الناس أفواجًا بالدعوة المجردة لا بالسيوف كما يزعم الآخرون.
أيها المؤمنون، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية وحضارتها يؤديها، ظاهرًا بإذن الله على الدين كله وعلى جميع الأنظمة المتعددة الأشكال والألوان، تحقيقًا لوعد الله تعالى.
إن هذه الآيات الكريمة كانت حافزًا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها، وما تزال حافزًا ومطمئنًا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظلّ تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز، جاء ذلك في الحديث الشريف قول الرسول : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي)). |