الحمد لله المتفرد بالدوام والبقاء، نحمده سبحانه وتعالى إذ اختصنا بشهر الصيام ليفيض فيه إحسانًا، ويغفر فيه عصيانًا، ويضاعف فيه أعمالاً، نحمده جل وعلا على كل حال، ونرجوه أن يجعله شاهدًا لنا عنده تبارك وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أزكى الأمة أعمالاً، وأصدقهم أقوالاً وأفعالاً.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، وجِدّوا في العمل الصالح في هذه الليالي العشر، وودّعوا شهركم هذا بالإحسان وتلاوة القرآن وبذل الصدقات، وقابلوا نعم الله بالشكر له جل وعلا والامتنان، وانهوا النفوس وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما فرّطتم في أول شهركم، وتنافسوا في الدرجات العلى والمنازل العالية، فإنما الأعمال بالخواتيم.
عباد الله، إن شهر الصوم قد قوّضت خيامه وتصرمت لياليه وأيامه، فالسعيد كل السعادة من ربح وفاز وتدارك ما فاته من العمل الصالح في هذه الأيام العظام، ويكفيك ـ أخي المسلم ـ شرفًا رفيعًا وقدرًا عظيمًا ما خصّ الله به هذه العشر، ليلةٌ هي خير من ألف شهر، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أنزل الله فيها القرآن وأجزل فيها الإفضال والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن فضلها في قوله تعالى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:1-4]، وقد كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر في رمضان، ويقول: ((تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان))[1].
فيا عباد الله، اغتنموا هذه الليلة المباركة، وعظموها بالقيام في صلواتكم بإحسان الركوع والسجود وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار، والتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك كما جاء بذلك الخبر عن البشير النذير معلم البشرية وهاديها إلى كل خير وناهيها عن كل شر.
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن نبيكم كان أجود الناس، وكان جوده وعبادته عليه الصلاة والسلام يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة[2].
فعلينا ـ معشر المسلمين ـ إحياء هذه السنة بالجلوس مع الأهل أو الأصدقاء ليلاً ومدارسة القرآن في المسجد أو البيت.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والفوز بموجبات الجنة كما ورد في الحديث الصحيح أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تصدق بصدقة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة))[3].
فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصدقات وتلاوة القرآن في هذه الأيام المباركة، وابتغوا ما عند الله من الأجر والثواب بالإحسان إلى خلق الله من مال الله الذي آتاكم، كما قال الله سبحانه وتعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
وتيقنوا ـ رحمكم الله ـ أن المال لا ينقص بالصدقة لما أخبر به الصادق الأمين: ((ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله))[4]. فاللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
|