أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وتوكلوا عليه حقّ التوكل مع صدق النية والتزام ذلك، واعلموا أن من أساس عقيدة التوحيد مبدأ التوكل على الله عز وجل، ولذا نجد أن حقيقة التوكل على الله قد جاء بها رسل الله جميعًا عليهم الصلاة والسلام، فكان كل منهم يخاطب قومه قائلاً كما حكى الله عنهم بقوله تبارك وتعالى: وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، اللهم اجعلنا منهم.
فالمؤمن يتوكل على الله وحده، فلا يلتفت قلبه إلى سواه، ولا يرجو عونًا إلا منه، وبهذا الإيمان كان المؤمنون على مدار العصور والأيام والشهور والسنين والأزمنة يواجهون الطواغيت باستعلاء وثبات على الحق قائلين كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12]، اللهم ارزقنا التوكل عليك يا حي يا قيوم.
عباد الله، إن القلب الذي يتوكل على الله هو قلب موصول بالله سبحانه، يستمد منه العون والنصر، غير مبال بالعقبات، وغير حافل بما يتوعده به طواغيت الأرض من الوعيد والتهديد، وكيف يخاف من يعتقد أن الله معه ويتيقن أن الله كاف عبده كما قال الله تعالى: أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكما قال الله جل وعلا: قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38]؟!
أما الذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد غير الله أو على سبب ما يعلّقون عليه الآمال أو يسندون إليه الظهور كما يقولون فأولئك قد أصيبوا بنكسة عظيمة في عقيدتهم، فيصبحوا عرضة الأهواء تتقاذفهم كيف تشاء، فتستولي عليهم الفتن، كفتن التمائم والحروز التي يزعمون أنها تدفع الشر أو تجلب الخير، بل يعلقون آمالهم بالدجاجلة والمشعوذين بدعوى أنهم يكاشفونهم أمورًا غيبية ولا يعلم الغيب إلا الله، وكذلك التطير والتشاؤم بالأيام والشهورة أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
فكل ذلك ـ يا عباد اللهـ نكسة وضلال، وعلى أولئك الناس أن يبحثوا أولاً في قلوبهم عن الإيمان بالله؛ لأن التوكل من صفات المؤمنين كما أخبرنا الله: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰنًا وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، صفة عظيمة وليست إلا للمؤمنين.
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن التوكل على الله وحده ليس بمانع من اتخاذ الأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمره به من اتخاذها، ولكنه لا يرى الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها، إن الذي ينشئ النتائج هو الذي ينشئ الأسباب، إنه قدَر الله وحده لا شريك له ولا ربّ سواه ولا معين إلا هو، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء، قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى:11].
فعلى الإنسان المؤمن الصادق في إيمانه صاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من كل سند من الأرض، بل ويستهين به مهما بدا قويًا، فهو لا يساوي شيئًا ما دام المسلم يرتكن إلى مولاه الذي خلقه وأوجده من عدم وأبرزه إلى حيز الوجود المشاهد، قال الله تعالى: مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، إنه الوصف الحقيقي يا عباد الله.
حتى ولو قدرت هذه الأسباب على أذاه، فإنما ذلك بإذن الله الذي يتولاه، لا عجزًا من ربه عن حمايته من أذاها، ولا تخليًا منه سبحانه عن نصرته، ولكنه ابتلاء وتمحيص لعباده الصالحين، كما أنه استدراج لعباده الطالحين وإمهال لهم.
ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يردد والمشركون يتناولونه بالأذى ويضربون وجهه بالنعال حتى تركوه وما يعرف له فم من عين، وهو يردد: (رب ما أحلمك، رب ما أحلمك)، فقد كان يعرف في قرارة نفسه ما وراء هذا الأذى من رحمة وحلم ربه، لقد كان واثقًا أن ربه لا يعجز عن تدمير أعدائه وإهلاكهم ونصره عليهم، واثقًا أن ربه لا يتخلى عن أوليائه، ولكنه الحلم والإمهال والاستدراج. فسبحان الله العليم الخبير البصير.
فأوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله وصدق التوكل والاعتماد على الله واللجوء إليه في جلب النفع ودفع الضر، فإنه جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـٰنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|