أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فمَن اتَّقاه وَقَاه، ومن توكَّل عليه حَمَاه.
أيّها المسلمون، مِن لوازمِ الإيمان الصّحيحِ والتوحيد الكامِل أن يتجنّبَ المرءُ كلَّ ما يؤثِّر في اعتقادِه أو ينافي إيمانَه بالله جلّ وعلا، ومن ذلك الحذَرُ من الخرافةِ بجميعِ صُوَرها ومن الضّلالات بشتى أشكالِها.
ومِن تلك الخرافاتِ التشاؤُم بشهرِ صفَر أو بيومِ الأربعاء منه أو بغيره من أجزاءِ هذا الشهر، يتوهَّمون فيه كثرةَ الدَّواهي وحصولَ المصائب وعدَمَ التوفيق، فلا يعقِدون فيه نِكاحًا ولا يشرَعون سَفرًا ولا يبدؤونَ عمَلاً.
أيّها المسلمون، إنَّ التشاؤمَ بمثل ذلك وغيره عقيدةٌ من عقائد الجاهلية الأولى وخُرافة من خرافاتِ أهلِ الشرك والوثنية، تحوِّل من اتِّجاههم وتوقِف مِن عزَائِمهم وتصدُّهم عن حاجاتهم ومَصالحهم، فجاءَت شريعةُ الإسلام شريعةُ التوحيد بإبطالِ ذلك كلِّه وبهدمِ بُنيانه من أساسِه، محرِّرةً العقولَ مِن رقِّ الوثنيّة وضلالات الجاهليّة، وفي هذا المقامِ نقِف وقفاتٍ مع هذا الموضوع المهمِّ وهو التطيُّر والتّشاؤم وموقف الإسلام منه.
فأوَّل هذه الوقفاتِ أنَّ الطِّيَرة هي التشاؤُم بما يَكرَه الإنسان بشيءٍ مرئيٍّ أو مسموع، فمن أراد حاجةً ما كسفرٍ أو زواجٍ أو نحوه ثم صدَّه عن حاجتِه مرئيٌّ قبيحٌ رآه أو كلمةٌ ما سمِعها أو معلومٌ واقِعٌ كشهرِ صفَر أو غيره من الأزمانِ أو الأماكن فقد وقَع في الطِّيَرة المنهيِّ عنها في الإسلام. ومِن مفاهيم الطيرة في الإسلامِ أنَّ ما حمل الإنسانَ على المُضِيِّ فيما أراد لأنَّ قلبَه اعتمد على ما رآه أو سمِعه فقد وقَع في الطِّيَرة والتشاؤُم، ففيما روِيَ عنه أنه قال: ((الطِّيَرة ما أمضَاكَ أو ردَّك)) أخرجه أحمد في مسنده وله شواهد تدلّ عليه.
وثانيةُ الوقفات أنَّ التّشاؤمَ في نظرِ الإسلام من الأوهامِ والسَّخافات والخيالاتِ، واجبٌ محاربتُها واجتثاثُها من جذورها وأصلها، قال : ((لا عدوَى ولا طِيَرةَ ولا هامةَ ولا صفَر)) أخرجه الشيخان، والنّفيُ هنا للحِلِّ والتّأثير، بمعنى أنّه لا تأثيرَ لتلك الأمور بذاتها لبتَّة في جلبِ نفع أو دَفع ضرّ.
والطِّيَرة ـ عبادَ الله ـ من الشركِ المنافي لكمال التوحيدِ الواجب، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((الطِّيَرة شرك، الطِّيَرة شركٌ)) أخرجه أبو داود والترمذيّ وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي. وأمّا إذا اعتقدَ المتشائِم أنَّ هذا المتَطيَّر به فاعلٌ بنفسه مؤثِّر دونَ الله جلّ وعلا فهذا مِنَ الشرك الأكبر؛ إذ في ذلك جعلُه شريكًا للهِ جل وعلا في الخلقِ والإيجاد.
أخي المسلم، إنَّ المتشائِمَ والمتطيِّر لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن يحجِمَ عن حاجته للأمر الذي رآه أو سمِعه أو لزَمَنٍ ما أو مكانٍ ما ظنًّا أن ذلك سببٌ لعدم التوفيق وخوفًا من فسادِ أمرِه وحاجتِه، فهذا من أعظمِ الطّيَرة والتشاؤم، فقد روِي عن النبيِّ أنه قال: ((من ردَّته الطيَرةُ عن حاجته فقد أشرك)) رواه أحمد.
الثانية مِن الأحوال: أن يمضيَ في حاجته لكن يكون في قلقٍ وهمٍّ، يخشى من كونِ هذا المتشاءَم به سببًا لفسادِ حاجَته، فهذا محرَّم أيضًا، وهو نَقص في التوحيد والاعتمادِ على الله جلّ وعلا.
أيّها المسلمون، مَن وقَع في قلبه شيءٌ مِنَ الطِّيَرة فالواجبُ عليه الحذَرُ من ذلك ودفعُه والتوكُّل على الله جلّ وعلا والاعتماد عليه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ومَا مِنَّا إلاّ، ولكنّ الله يُذهِبه بالتوكّل). ثمّ على من وقَع في قلبه شيءٌ من الطّيَرة أن يلتجئَ إلى الله جل وعلا، وأن يدعوَ بما ورَد، ومنه ما رواه أبو داود بسندٍ صحيح عن [عروة] بن عامر رضي الله عنه قال: ذكِرَت الطيرةُ عند رسول الله فقال: ((أحسنُها الفأل، ولا تردُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكرَه فليقل: اللّهمّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئاتِ إلا أنت، ولا حولَ ولا قوّة إلا بك))، ومنه أيضًا قوله: ((اللّهمّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيرَ إلاّ طيرك، ولا إلهَ غيرك)). فمن توكَّل على اللهِ ووثِق به بحيث علَّق قلبَه بالله جل وعلا خوفًا ورجاء وقطعَه عن الالتفاتِ إلى هذه الأمور وقال ما أمِرَ من الأدعيَةِ ومَضى في حاجتِه فإنَّ ذلك لا يضرُّه بإذنِ الله.
ومِن الوقفاتِ ـ عبادَ الله ـ أنَّ من لم يخلِص توكّلَه على الله جلّ وعلا واسترسَلَ مع الشيطان في التشاؤُم والتطيُّر فقد يعاقَب بالوقوع فيما يكرَه ويبغِض؛ لأنّه أعرض عن واجبِ الإيمان بالله الذي الخيرُ كلُّه بيدَيه، هو الذي يجلبُه للعبد بمشيئتِه، وهو الذي يدفع عنه الضرَرَ وحدَه بقدرته ولطفِه وإحسانه.
أيّها المسلمون، وآخِر هذه الوقفات في هذا الموضوعِ ما ورَد في الصحيحين عنه أنّه قال: ((لا عدوَى ولا طيَرةَ، ويُعجِبني الفأل))، فسئِل: ما الفأل؟ فقال: ((الكَلِمةُ الحسنة)).
الفألُ كلُّ ما ينشِّط على إنهاء حاجة الإنسان من الأقوالِ والأفعال الحسَنَة الطيّبة مع عدَمِ السكون إلى هذه الأمور، بل إلى خالقِها ومسبِّبها وهو الله جلّ وعلا، قال بعض أهلِ العلم: وإنما كانَ يُعجِبه الفألُ لأنّ التشاؤمَ سوءُ ظنٍّ بالله جل وعلا، والتفاؤل حُسنُ ظنٍّ به عزّ وجلّ، والمسلم مأمور بحسنِ الظنِّ بالله جل وعلا في كلِّ الأحوال.
فالفألُ ـ أيها المسلم ـ يزيد الإنسانَ نشاطًا وإقدامًا فيما توجَّه إليه، فينشرِحُ بذلك صدرُه، ويأنَس قلبه، ويذهب الضيقُ الذي يوحيه الشيطانُ في قلبه، وأمّا الطيرة فهي توجِب تعلُّقَ الإنسان بالمتطيَّر به، وتقتضي ضعفَ توكّلِه على الله جل وعلا، مع رجوعه عما همَّ به من حاجةٍ مِن أجل ما رآه أو سمِعه من الأمورِ القبيحة، روَى الترمذيّ وصحّحه عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كان يعجبه إذا خرَج لحاجةٍ أن يسمَع: يا راشدُ يا نجيح.
فاتّق الله أيها المسلم، واعلَم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، فكن متوكِّلاً على الله جلّ وعلا، معتمِدًا عليه، واثقًا به.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيهِ من الآيات والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|