أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أشدّ الأمراض الاجتماعية فتكًا بالأمم مرض الرشوة الخطير، فهو يفتك بالمجتمع فتكًا ذريعًا، ويهدر أخلاق الأمة وكيانها ويعود عليها بالوبال والدمار في الأسر والمجتمعات والأفراد والمال والعيال والحال والمآل في الدنيا ويوم العرض على الكبير المتعال، فإذا فشت الرشوة في أمة من الأمم واستمرأ الناس تعاطيها فاعلم أن الضمائر قد ماتت وأن نظام الأمة قد قوِّض، ومن أجل هذا فقد قص الله علينا في كتابه الكريم من أخبار اليهود أنهم سمّاعون للكذب أكّالون للسحت فقال تعالى: سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، أي: يسمعون الباطل ويأكلون الرشوة، فالكذب هو الباطل في كل صوره وأشكاله وأنواعه وألوانه وطرقه الملتوية، والسحت هو الرشوة كما فسر الآية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغير واحد من السلف، فهي فساد في الضمير وضرر في التعامل.
والرشوة ـ عباد الله ـ هي بذل المال للتَّوصّل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقّه، أو إعفائه مما هو حق عليه.
والرشوة حرام بكلّ أشكالها وصورها وطرقها وأساليبها، سواء كانت على صورة هدية أو مأدبة طعام للمرتشي أو كانت نقدًا صريحًا، وكل ذلك في مقابل الانحراف بالحقّ إلى الباطل، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من يشفع شفاعة ليردّ بها حقًّا أو يدفع بها ظلمًا فأهدي إليه فقبِل فهو سحت).
وتكون الطامة الكبرى إذا بلغ الأمر بالمرتشي ليساوم الراشي في مقدار الرشوة مجاهرًا بذلك دون حياء أو خجل أو خوف من الله جل وعلا، مما يؤدّي إلى أن تصير الرشوة تجارةً رابحة في نظر مروّجيها الفاسدين، فيومئذ تضيع الكرامة، وتهدر لحقوق، ويموت النبوغ، ويتلاشى الجدّ في العمل والحرص على أداء الواجب، ويضيع الحقّ، وتهدر الكرامات، وتموت الضمائر.
ومن أقبح وأخسّ الأساليب الملتوية للحصول على الرشوة تعطيل معاملات الناس والتسويف في إنجازها إلى أن يتمّ أخذ الرشوة وحصول خيانة الأمانة التي يقول الله تعالى فيها: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
وهكذا ـ أيها الناس ـ تضيع الأمانات بسبب الرشوة، وتؤكل بسببها أموال الناس بالباطل، وتتحول الأعمال الشريفة إلى أعمال لصوصيّة كرشوة المسؤولين في مشاريع الدولة العمرانية من قبل أصحاب الأعمال، وكرشوة المشرفين على الأعمال من أجل التقصير بالعمَل وعدم تنفيذ الشروط المبرمة بالعقود وعدم الوفاء بما عليها من التزامات.
فالله الله أيها الناس، فإياكم والوقوع في حبائل الرشوة المحرمة، فإنها خيانة عظمى ودناءة نفس وضيعة، فكفى بها من دناءة وخسة وهوان وسقوط مروءة وخيانة عهد وإخلافَ مواعيد، فلا يقبلها إلا لئيم الطبع وسيّئ الخلق ودنيء النفس ومجرم التعامل.
فالمرتشي يخون الأمانة التي عُهد بها إليه، ويمنع الحقّ عن صاحبه، ويشجّع على ضياع الذمم، وخراب الضمائر وإهدار الشرف والكرامة.
والراشي كذلك فإنه يساعد المرتشي على أكل أموال الناس بالباطل، وينمّي فيه الخلق السيّئ، وييسر له التحكم فيما هو حقّ لغيره، ويستحلّ ما ليس له، ومن أجل هذا كان الراشي والمرتشي ملعونين على لسان نبينا محمد ، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي))[1]، أي: الآخذ والمعطي.
فهذه ـ عباد الله ـ عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة، إنها الطرد من رحمة الله تعالى، وأما في الدنيا فإنها تؤدّي إلى محق البركة في الرزق والأهل والمال والولد والعمر والحياة.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على دينكم وأمانتكم، واحذروا كلّ الحذر من الرشوة فإنها خيانة وظلم وفساد وشرّ ووبال ودمار وهلاك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، وكانت نهاية خلافة الدولة العثمانية على إثر الرشوة عياذًا بالله تعالى من عقوبته وسخطه، اللهم سلمنا يا ربّ، والله المستعان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|