أما بعد: فيا عباد الله، لقد قرن الله سبحانه وتعالى في كتابه بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإنفاق في سبيله، فقال الله تعالى: ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
فاتقوا عباد الله، وأنفقوا مما رزقكم الله تعالى، واعلموا أن الله هو المالك الحقيقي لكل ما في الكون المتصرّف فيه المدبّر له، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والمال في الحقيقة مال الله؛ لأنه هو خالقه وواهبه وميسّر سُبُله ومانح الإنسان القدرة على اكتسابه، ومهما ذكر الإنسان عمَله وجهده فليذكُر القدرة الإلهية في الإيجاد والإمداد والبسط والعطاء وإنبات الزروع وإنزال الماء وتنويع ذلك، ولذلك يوجّهنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه الحقيقة فيقول جل ذكره: أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزرِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰمًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:63-70].
وفي آيات أخرى يقرر الله تعالى أن المال مال الله، وأن الإنسان ما هو إلا مستخلف فيه أو موظف مؤتمن على تنميته وإنفاقه والانتفاع والنفع به، فقال الله تعالى: وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى ءاتَـٰكُمْ [النور:33]، وقال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
فاتقوا الله يا عباد الله، وأنفقوا من بعض ما رزقكم الله على إخوانكم من عباد الله من المسلمين، وذلك قيامًا بواجب المنعم علينا والشكر له على نعمائه، وسارعوا بالإنفاق في سبيل الله قبل أن تبحثوا فلا تجدوا من يقبلها منكم فتصبحوا من النادمين، ففي الصحيح عنه أنه قال: ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه))[1].
ولا تستح ـ أخي المسلم ـ من إعطاء القليل القليل، فإن الحرمان أقل منه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربِّي أحدكم فلوَّه[2] أو قلوصه[3] حتى تكون مثل الجبل أو أعظم))[4]. والله جل وعلا هو الذي يقبل الصدقات.
وقد صور لنا القرآن الكريم ما أعده للمنفق في سبيل الله من مضاعفة الأجر فقال جل شأنه: مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وقال النبي : ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))[5].
فإياك ـ أخي المسلم ـ أن تقع في حبائل الشيطان أو الهوى والنفس الأمارة بالسوء وجلساء البخل والسوء، فتُزيّن لك الأمور بميزان المادة، فتظنّ أن البذل والإنفاق خسارة ومغرمًا، فالعكس هو الصحيح، وقد بيَّن لنا رسولنا الكريم خطأ هذه المفاهيم، روت عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا ببعضها، فقال النبي : ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال: ((بقي كلّها غير كتفها))[6] أي: الذي أنفقوه هو الباقي لهم عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ الآية [النحل:96].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـٰكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
وفقني الله وإياكم للإنفاق في الوجوه المستحقة للبر والإحسان، ووقانا بمنّه وكرمه الشح والبخل، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|