هم في الأمة كالورم الخبيث الكامن في الجسد، ينتظر لحظة من الوهن والضعف ليظهر نفسه، كالحرباء في تلونهم، يلبسون جلود الضأن على قلوب السباع، يدّعون الإسلام وهو منهم براء، خطرهم على الإسلام أشد من خطر الكافر المعلن لكفره، فهم كاللّصّ المخالط الذي يلبس ثوب صديقٍ وفيٍّ أمينٍ، فلا يحذَر جانبه، كما قيل: لصّ الدار لا ترقبه الأنظار. هم العدو الحقيقي الذي يُغفَل عنه مع شدة خطره، هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ [المنافقون:4].
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) أي: علمه بالإسلام لا يتجاوز حدودَ لسانه، فكلامه يخدع المؤمنين ويذهب بالقلوب، لكنه يضمر في قلبه المكر والكيد والخديعة، وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، فهم يختارون العبارة التي يخدعون بها الأمة ويزوِّقون بها باطلهم، ينسبون لأنفسهم كل جميل، فهم رعاة المصلحة وأدعياء الحرية! وهم المحافظون على حقوق المرأة والحريصون على رقي الأمة! ألسنتهم تردّد: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، قد حصروا الصلاح فيهم، فهم أهله وَسَدَنَته! ثم سلّطوا ألسنتهم وأقلامهم على أهل الخير والصلاح، حتى يختصّوا هم بالصلاح! فرموا أهل الخير بكل بلية، ووصموهم بكل رزية، فهم معقَّدون متطرِّفون متخلِّفون أصحاب مشاكل! في تهمٍ لا تنقطع، تتجدّد حسب العرض والطلب.
لقد زعم المنافقون الإصلاحَ من قبلُ فكذَّب الله دعواهم بل حصر الإفساد فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فهل تجد أصدق من كلام الله حديثا وأوضح منه بيانًا؟! إذ يحصر الفساد فيهم وهو العليم الخبير، فهم حاضنو الفساد بكل صوره، ودعاته المخلصون، ورعاته الرسميون. إنه النفاق بتعدّد صوره ومكره وخداعه وأساليبه.
فتعال نستنطق التاريخ ونستخرج شهاداتِه ونقلب بعض ملفاته وصفحاته، لننظر أي رزية حلت بالمسلمين من جراء الركون إليهم والتهوين من خطرهم، والله سبحانه يقول: هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ.
حين هاجر النبي إلى المدينة ظهرت أول خلايا النفاق الخبيثة، فبدأ النفاق يحِدُّ سكينته ويسقيها سمّ الخديعة والمكر، ينتظر لذلك اللحظة المناسبة ليرمي بها من يريد. لقد عانى منهم رسول أشدّ المعاناة، فقد وقفوا لدعوته موقفَ العداء المُبَطّن، شَرَقت نفوسهم من دعوته وضاقوا بها ذرعًا، روى ابن إسحاق بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله ركب إلى سعد بن عبادة يعوده من مرض أصابه، قال أسامة: فأردفني خلفه على حمار، فمرّ بعدوّ الله عبد الله بن أُبيّ بن سلول وهو جالس إلى الظل وحوله رجال من قومه، فكره النبي أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلّم ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن ودعا إلى الله، وذكّر به وحذّر وبشّر وأنذر وابن أُبي لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله من مقالته قال ابن أُبيّ للنبي : يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، فإن كان حقًا فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تؤذه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره. شرق بها هذا المنافق وورثه أحفاده الذين شرقوا بالدين وبالصحوة والمصلحين، فردّ عليه ابن رواحة فقال: بل اغْشَنا يا رسول الله، فهو والله ما نحبّ ومما أكرمنا الله به.
ويلجأ المنافقون إلى أسلوب الاستهزاء والسخرية، يسخرون من الدين ومن حملته، فيظهرونهم مظهر الازدراء والتنقص، ويسخِّرون قنواتِهم وإذاعاتِهم وصحفَهم ومجلاتِهم لذلك، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8].
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردَوَيْه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك قال: سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي يخطب: إن كان هذا صادقًا لنحن شرّ من الحمير، قال زيد: هو والله صادق، وأنت شرّ من الحمار، فرفع ذلك إلى النبي فجحد القائل، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ [التوبة:74].
وهذا يزيد بن حاطب بن أمية رضي الله عنه يخرج مع المسلمين في غزوة أحد فتصيبه الجراح حتى تثنيه، ثم يُحمل إلى دار أهله، ويجتمع إليه طائفة من المسلمين وهو يعاني سكرات الموت، فجعلوا يقولون له: أبشر ـ يا ابن أبي حاطب ـ بالجنة، فينكشف نفاق أبيه حينئذ فيقول مستهزئًا: أجل جنة والله من حَرْمَل، ـ الحرمل نبات، وهو إشارة إلى الأرض التي سيدفن فيها، أي: هذه جنتك التي يقولون ـ ثم يقول: غررتم والله هذا المسكين في نفسه.
وحيث إن المنافقين لفرط خوفهم وجبنهم لا يستطيعون أن يتميزوا مع المشركين فيحاربوا الدين والدعوة جهارًا، فقد قاموا بدور كبير في الإرجاف وإدخال الخوف في صفوف المسلمين، ولا زالت هذه سبيلهم في المسلمين؛ يعظمون أمر الأعداء، ويضعفون قوة المسلمين، ويربطون الناس بالماديات فحسب.
خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم، وكان في الجيش بعض المنافقين، فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين فقال بعضهم: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر ـ أي: الروم ـ كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال.
ويموت النبي ، ويزداد كيد المنافقين ومكرهم، إذِ الوحي قد انقطع فما عادوا يخشَوْن فضيحة تخبر بما في صدورهم، فاستعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق مستور، فجهروا بالامتناع عن أداء الزكاة التي كانوا يقدمونها إلى النبي ، وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ [التوبة:98]، حتى قال بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟!
وتأتي خلافة عمر فيَنْخنس النفاق وَيشرق برِيقهِ، فيدبرون ويمكرون في الخفاء حتى يكون اغتيال عمر بتدبير منهم كما تشير إلى ذلك أكثر الدلائل.
وكذا فعلوا مع الخليفة الحييّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان قتلُه بمؤامرة من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام وأبطن النفاق والكفر.
ذكر إحسان إلهي ظهير رحمه الله إجماع مؤرِّخي السنة والشيعة أن ابن سبأ هو من أضرم نار الفتنة، وسعى بالفساد في أرض الخلافة، وأغرى الناس ضد عثمان.
وكذا فإن لابن سبأ الدور الكبير في الفتنة العظمى التي حصلت بين الصحابة، حتى إنه لما سعى علي رضي الله عنه بالصلح بينه وبين طلحة والزبير وساروا في ذلك قام ابن سبأ فيمن كان على رأيه فقال: إنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، فإذا التقوا ـ يعني للصّلح ـ فأنشِبوا الحربَ والقتال بينهم، ولا تدعوهم يجتمِعون، فاختلط المنافقون بالناس، وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى طريق العودة للصلح عزم الأشرار على إثارة الحرب بينهم مع طلوع الفجر، فابتدؤوا الحرب بالهجوم على من يلونهم من جيش طلحة والزبير، وثار الناس مغضبين، وتفاجَؤوا مما حدَث، فاتهم بعضم بعضًا، ونشب القتال الذي ذهب ضحيته خلق كثير من المسلمين.
وتستمر مكائد المنافقين لهدم دولة الإسلام في كل زمان ومكان، والسبب هو غفلة المسلمين عن خطر هؤلاء المنافقين، فهذا الرافضي الخبيث المنافق ابن العلْقَمِي كان وزيرًا للخليفة العباسي المستعصم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدور الكبير في دخول التتر إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها، والمذابح المروعة التي نتجت عن ذلك، فقد كتب ابن العلقمي إلى هولاكو ملك التتر يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد إذا حضر بجيشه إليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرّق العسكر، فلما وصل الكتاب إلى ابن العلقمي دخل على المستعصم، وزين له أن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأن التتر قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء العساكر، فاستجاب الخليفة لرأيه، وأصدر أمرًا بذلك، فخرج ابن العلقمي بنفسه ومعه الأمر واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية فتفرقوا في البلاد.
وبعد عدة أشهر زين للخليفة أن يسرح أيضًا عشرين ألفًا فاستجاب لطلبه، وفعل ابن العلقمي كما فعل في الأولى فاختارهم على عينه، كان هؤلاء الفرسان الذي سُرّحوا ـ كما يقول المؤرخون ـ بقوة مائتي ألف فارس.
ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحسَّ أهل بغداد بمداهمة جيش التتر لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وقاتل المسلمون ببسالة، وحلت الهزيمة بجيش التتر، ثم عاد المسلمون مؤيَّدين منصورين، ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فلما جاء الليل أرسل الوزير ابن العلقمي جماعة من أصحابه المنافقين الخونة، فحبسوا مياه دجلة ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل. وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته، فعاد هولاكو بجيشه وعسكر حول بغداد، فلما جاء الصباح دخل جيش التتر بغداد ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا الخليفة وابنه قتلة شنيعة، وأفسدوا أشدَّ الفساد.
ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، فوبخه على خيانَتِه لسيّده الذي وثِق به، ثم قال: لو أعطيناك كلَّ ما نملك ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك فقتِل شرَّ قِتلة، وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
الحديث حول المنافقين وخطرهم يطول، كيف وقد لبسوا اليوم لباس العلمانية، فنسبوا أنفسهم إلى العلم بهتانًا وزورًا، ولا يكون العلم بأساليب الخداع والمكر والسخرية والاستهزاء والإرجاف والتخويف، وبئس ما يعملون.
ولكن المصيبة كل المصيبة أن يوجد من المسلمين من يكون أُذُنًا لهم، يسمع حديثهم ويصدق أخبارهم وينجرف خلفهم في مقترحاتهم وآرائهم دون أن يشعر، الشيء الذي عابه الله على بعض المسلمين فقال: وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]، قال ابن كثير: "أي: مطيعون لهم مستحسنون لحديثهم وكلامهم"اهـ.
فالحذر الحذر من كيدهم ومخططاتهم وتلقّف سمومهم، فهم يريدون أن يشبعوا شهواتهم ورغباتهم، ولو كان ضحية ذلك هو ضياع الأمة. يريدون بالأمة أن تسير على ركب الحضارة الغربية بحلوها ومرّها وخيرها وشرها، كما صرح بذلك أحد كبارهم عليه من الله ما يستحق.
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]. |