من جميل صفات التشريع الإسلامي تلك المرتكزات التي يقوم عليها من السهولة واليسر والتخفيف والسماحة، إذ راعى وضع جميع أفراده وتفاوتَ قدراتهم واختلافَ أحوالهم وطاقاتهم، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
وفي توجيهاته نجد حرصه على عدم الإثقال على أمته، ودعوته إلى السماحة واليسر في أقواله وأفعاله وفي إرشاده لأصحابه رضي الله عنهم، ويظهر ذلك جليًا واضحًا في سائر الأحكام التشريعية، في العبادات والمعاملات وكافة التكاليف الدينية، ولا غرابة في ذلك فقد قال عنه خالقه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وحين حث على الزواج ليحفظ المسلم نفسه من الوقوع في المخالفات، وليقطف مصالح الزواج وأهدافه، وينعم المجتمع الإسلامي بنتائجه وثمراته، دعا إلى تسهيل أمر الزواج وتيسير الطرق الموصلة إليه، ومن أهمها الصداق الذي يقدمه الزوج للمرأة مقابل اقترانه بها، فقد روى جابر أن رسول الله قال: ((لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالاً)) رواه أحمد.
وبيَّن أن تخفيف الصداق يجلب الخير للزوجين، ويأتي بالبركة، ويضفي على حياتهما أجواءً من السعادة والهناء، فقال : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)) رواه الإمام أحمد، وقال : ((خير الصداق أيسره)) رواه ابن ماجه.
والنبي تزوج أم المؤمنين صفية رضي الله عنها وجعل عتقها صداقها، ولم يبالغ في مهور نسائه ولا بناته، إذ لم يزد صداق بعضهن على اثنتي عشرة أوقية، كما بَيَّنَ ذلك عمر حين ظهرت مغالاة الناس في المهور وزيادتهم على الحد المتعارف عليه في العهد النبوي، فقال : (ألا لا تغالوا في صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها رسول الله ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل لُيغلي بصداق امرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه) رواه الترمذي.
فهذا الفاروق يشير إلى المساوئ المترتبة على المغالاة في الصَّداق والنتائج العكسية والآثار السلبية المترتبة على زيادة المهور، ومنها أن الزوج حين يُلْزَمُ بدفع صداقٍ عالٍ ومهر غالٍ يشُقّ على نفسه في توفيره، ويتكلف في جمعه وتحصيله، فيقترض من هذا وذاك، ويتحمل الديون التي تثقل كاهله وتقلق راحته، ويسعى في جمع هذا المهر سنين عديدة، ثم يقدمه للزوجة، وبعد أن يدخل بها ويُمضي معها أيام الزواج الأولى ويحين موعد سداد ديونه يجد أن حالته المادية لا تساعده في الوفاء بكل ما اقترض، ولا تسديد كل ما استدان، فيؤدي ذلك إلى كراهته لزوجته؛ لأن توفير صداقها هو الذي أوقعه في الديون، فتتكالب عليه الهموم، وتنصرف رغبته عنها، إذ إن تلك الديون شَكَّلَت له عقبة كؤودًا في طريق السعادة، وبقيت نارًا تتلظى في فؤاده.
لقد قال عمر ذلك في عصره ولم تكن المغالاة في زمنه مثل ولا قريبة مما حدث بعده حتى يومنا هذا.
وهناك نماذج فريدة وأمثلة عديدة وصور من المجتمع المدني، كان المهر فيها سهلاً ميسورًا، إذ كانت المرأة تقنع باليسير وترضى بالقليل، فهذا أبو طلحة يخطبُ أم سليم رضي الله عنها فتقول: والله، يا أبا طلحة ما مثلك يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك شيئًا غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها. قال ثابت: فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم. رواه النسائي.
إنه أنموذج فريد لامرأة تنازلت عن حقها المادي، واشترطت مهرها الإسلام لإنقاذ رجل من براثن الشرك وغياهب الضلال، واجتذبته إلى نور الهدى وشعاع الحق والتقى، فنالت أجره وثوابه، وكان هذا خيرًا لها من حُمر النَّعم، وأفضل من ماديات الحياة الدنيا وبهرجتها الزائفة ومظاهرها البراقة الكاذبة.
وصحابية أخرى لم تجعل المال هدفها، ولا العَرَض النفيس غايتها ومقصدها، فلم تشترط مركبًا فارهًا، ولا لباسًا غاليًا، ولا سكنًا واسعًا، بل اقتنعت بأن صداقها أقل القليل، هما نعلان تلبسهما تقي بِهما قدميها حر الرمضاء وقسوة البرد في الشتاء، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فعلم رسول الله بذلك فقال لها: ((أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجاز نكاحها. رواه الترمذي وصححه.
وأما جيل التابعين فإن فقيههم عالمَ المدينة سعيد بن المسيب ضرب أروع الأمثلة في ذلك، حين دفع ابنته زوجةً لتلميذه أبي وداعة، وجعل مهرها درهمين فقط، وكان قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فاختار سعيدٌ أن يزوجها لأحد طلابه خوفًا عليها من فتنة الدنيا والتقلب بين رياشها وملذّاتها.
فهل في هذا الزمن أنموذجُ عصري فريد يعيد سيرة ابن المسيب في تزويج ابنته؟! لا أظن أن ذلك محال، لكنه عزيز ونادر، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
كم نادى الدعاة والمصلحون، وكم رددوا من الخطب والمواعظ والدروس والنصائح التي أصغت إليها أسماع بعض الأولياء ولم تعيها قلوبهم، كم دعوا إلى تخفيف المهور، وأكدوا على ضرورة تيسيرها، وبينوا الأخطار الناجمة عن المغالاة فيها، فكم من شاب عقد العزم على إكمال نصف دينه، فاعترضته عقبةُ كثرة الصداق، واصطدم بها، فتوقفت آماله، وتحطمت رغباته، وشكا إلى الله حاله، وكم من فتاة تتوق إلى تكوين أسرة وإنجاب أولاد، فحال وليها بينها وبين تحقيق آمالها باشتراطه مهرًا غاليًا كلما تقدم شاب لخطبتها.
لقد أصبحت مشكلة غلاء المهور أمرًا يؤرق الشباب والفتيات، ويقلق الأيامى من الذكور والإناث، وما ذاك إلا لجشع بعض الأولياء، وتنافسهم في جمع المال من هذا الطريق، والطمع المادي الذي ترسَّب في قلوبِهم، فلم يدركوا أهداف الزواج، ولم يعرفوا مقاصده السامية وأهدافه النبيلة.
كما أن النظرة إلى الزوج الكفء قد تغيرت عند بعضهم، فأصبح المعيار المادي هو المقصد عند بعض الآباء والأولياء الذين لم يُمعِنوا النظر في قوله : ((من يُمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)) رواه أحمد. |