أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شريعةُ الإسلام رغّبت المسلمين في الزّواج وحثّتهم على ذلك، وَأَنْكِحُواْ ٱلأيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وأُرشِد الرجال العاجزون عن الزّواج إلى العفّة عن محارم الله والصّبر على ترك المحرّمات رجاءَ الفرَج من ربّ العالمين، وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33].
أيّها المسلمون، وقد بيّن الله جلّ وعلا الحكمةَ من الزّواج بقوله: وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، ممّا يؤسَف له عزوفُ بعضِ شبابِنا أو بعض فتياتنا عن الزّواج وزهدُهم في ذلك وعدَم رغبتِهم فيه، وكلٌّ يعلِّل لنفسه ويبرّر موقفَه.
فالفتاة المسلمَة العازفةُ عن الزّواج تبرّر موقفَها أحيانًا بأمورٍ عندما يناقِشها المسلمُ حقًّا يراها أمورًا غيرَ كافية وأمورًا غيرَ مقنِعة للإعراض عن هذه النّعمة العظيمة، ذلكم أنّ الزواج سببٌ لتحصين الفرج وسببٌ لغضِّ البصَر وسكونٌ للنّفس وطمأنينة في القلب وراحةُ بالٍ وحياة سعيدةٌ ينعَم بها كلٌّ من الشّاب والفتاة. وتلك المبرّرات إذا عرَضتها عرضًا صحيحًا وجدتها مبرّراتٍ غيرَ لائقة، وليست سببًا قويًّا يُعزف عن الزّواج، بل هي أسباب ضعيفةٌ لا اعتبارَ لها في الحقيقة.
فالفتاة المسلمةُ تعزف عن الزّواج وتزهَد فيه وتبرِّر موقفَها أنّها فتاة طموحةٌ في التّعليم، تريد مواصلةَ الدّراسة، وتتخطّى كلَّ العقبَات، وتقطع كلَّ مراحِل التّعليم، بل تمضِي إلى ما فوقَ ذلك، وترى أنّ الزواجَ عائق لها، وأنّ الزواج مانعٌ لها، وذاك تصوّرٌ خاطِئ بلا شكّ، فما الدّراسة مانعةٌ مِن الزّواج، وما هي معوِّقة عن الزّواج، بل منافع الزّواج وفوائدُه كثيرة جدًّا، وبإمكان الفتاةِ المسلمة أن تجمَع بين الأمرَين، وذاك ميسَّر عند النيّة الصّادقة وعندما تتخطّى تلك العقباتِ التي تقف في طريقها، وترى أنّ الزواجَ خيرٌ كثير لها؛ لأنّ هذه الفتاة المسلمةَ ربّما يمضي ثلثُ عمرها أو أكثر، تأخذ ثلاثَ عقود من عمرها، وربّما تزداد، فيعرِض عنها ويزهَد فيها الخطّاب، وتندَم ولات ينفع ندمُها.
فالمرأة المسلمةُ لا ينبَغي لها أن يكونَ هذا عائقًا لها، بل تقدِم على الزّواج إذا تقدّم لها الكفءُ من الرّجال، وتحمد الله على هذهِ النّعمة، وبإمكانِها بتوفيقٍ من الله أن تواصلَ تعليمها، وليس هذا بعائقٍ عن التعليم لمن كانت جادّةً في طلب أمورها.
ومرّة أخرى تبرِّر الفتاة المسلمة زهدَها عن الزّواج بالنّظر الماديّ المحض، فهي قد تنظر إلى مَن عنده المالُ الكثير، ولا ترغب إلاّ فيمن تراه موفِّرًا لها كلَّ ما تريده وكلَّ ما تهواه، وأنّ الزوجَ الذي قد يقصر عن بعضِ الأمور لا تريده زوجًا لها، إذًا تفترِضُ صفاتٍ معيّنة، وقد يكون فيما تريده ضررٌ عليها، فهي لا تنظر إلى الزّوج من حيث الأخلاق والقيَمُ والسلوك وحُسن الرّعاية والاستقامةُ على الطّريق المستقيم، بل تنظر إليه أحيانًا النّظرَ الماديّ المحض الذي قد يكون سببًا لشقائها معه من حيث لا تشعر. لا شكّ أنّ المالَ مطلوب وأنّ غِنى الزّوج مطلوب، ولكن ليكن ذلك بالحدود المعقولةِ شرعًا.
ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاةُ زهدَها عن الزواج أو قد يكون نظرٌ لأوليائها أنّهم أهلُ ثروة ومال كثير، وأنّ المتقدّمَ إليهم قد يأخذ شيئًا من ثروات مالِهم فيما لو حصل على ربِّ أسرةٍ موتٌ أو نحو ذلك، فانتقل المال إلى الفَتاة، ثمّ إلى أولادِها وزوجها، وتلك نظرة خاطئةٌ وتصوّر غيرُ صواب، فالفتاة المسلمةُ سعادتُها مع دين الله في حصول زوج صالحٍ يعفّها، وتعيش تحت ظِلاله بتوفيقٍ من الله ورحمة.
أيّها الإخوة المسلمون، ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاة المسلمةُ زهدَها عن الزّواج بعلّة أخرى، وهي أنّها لا تريد إلاّ شخصًا معيّنًا، وربّما انقدح في ذهنِها أشياء معيّنة، فيكون لها موقِف، ولأهلها موقِف، وتضيعُ الفتاة في سبيل بعضِ التنطُّعات التي لا داعيَ لها، والفتاة المسلمة لو تأمّلت في أمرها حقَّ التأمُّل لعلِمت أنّ الزواج سبب لصيانتِها وسببٌ لعفّتها وراحةِ بالها، وأنّ المرأة التي يمضي عليها عمرُها ولم تتزوّج أنّها تندم في آخر عمرها، وتتمنّى زوجًا يكفلها، وتتمنّى ولدًا صالحًا يكون فيه خيرٌ لها ولعفّتها ولصيانتِها ولخدمتِها وللقيام بواجبها، وترى مَن حولها مِن فتياتٍ ينعمنَ بالبنين والبنات، وهي تركَت الزّواج لِعَللٍ واهية، ولم يكن من آبائها وأمّهاتها من يكون سببًا لتوجيهها وإرشادِها وتبيين طريقِ الصّواب لها.
أيّها المسلمون، وقد يكون الخطأ من الأبِ أحيانًا، وذاك عندما يكون لهذه الفتاةِ مال من مرتَّب أو غيره، ترى هذا الأبَ يحول بين الفتاة وبين زواجِها، لماذا؟ لأنّه يرى زواجَها يقطع عنه ذلك المالَ، فهو إمّا أن يفرضَ على الزّوج أن تستمرّ في عملها وتواصِل عملَها رجاء لأن يأخذَ مرتّبها، وإمّا أن يغلقَ أبوابَ الزواج دونَها، ومن تقدّم لها مِن الأكفاء ردّه بأيّ علّةٍ يبتدِعها من تلقاءِ نفسِه، والغاية من ذلك أن يكونَ مرتّبها لأبيها، فهو لا يريد زواجَها خوفًا من أن ينقصَ ذلك المرتَّب، فهو يحاوِل من خلال تعطيلها عن الزّواج أن يسلَم له مالها، ولا ينافسه في ذلك المالِ غيره. هكذا تصوّر بعضِ اللُّؤماء من الآباء ومَن ليس عندهم إيمانٌ صحيح ولا أداء للأمانة على الوجهِ المطلوب، ألا يعلم هذا الأبُ أنّ الفتاةَ أمانة في عنقِه، وأنّه إذا ردّ عنها الأكفاء مِن الرّجال كان بذلك عاصيًا لله ورسوله؟! يقول : ((إذا أتاكم مَن ترضَون دينَه وخلقه فزوّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)).
وربّما منعَ الأب زواجَ الفتاة ليرغِمها على من يَهوى هو ومَن يرغب هو، إمّا قريب، يقول: لا يمكن أن تخرجَ الفتاة عن بيتِنا، ولا يمكن أن يتزوّجها غيرُ فلان وفلان، فيحجر عليها انتظارًا لهذا أو هذا، وقد تكون الفتاةُ لا ترغب في ذلك، فإمّا أن يجبرَها على مراده، وإمّا أن يعطّلها مِن الزّواج عصبيةً جاهلية وحميّة جاهليّة ما أنزل الله بها مِن سلطان.
أيّها الشّباب المسلم، وشبابُنا المسلم يوجَد فيهم عزوفٌ عن الزّواج أحيانًا، فبعضهم يعزف عن الزّواج لا لقلّةِ المال بيده، ولكن يريد أن يمضِي عليه عقودٌ أربعة وهو مشغول بلهوه، متمتِّع بمعاصِيه، صادّ عن الطريق المستقيم، يرى أنّ الزواجَ حاجز له عن أن يذهبَ هنا وهناك، ويرى أنّ الزواجَ يلزمه بالقيام بالواجب، وهذا لا يريد الالتزامَ بأيّ واجب، ولا التقيّدَ بأيّ عمل، يريد أن يكونَ حرًّا، يسافر متى ما شاء، ويسهَر كيف يشاء، ويصاحب من يشاء، بلا قيدٍ ولا شرط. وهذا ـ أخي الشابّ المسلم ـ أمرٌ لا يجوز لك، هذا أمرٌ لا يصحّ لك، فيمضي وقتُك، ويمضي قِسم من عمرك وأنت في لهوِك ولعِبك، فاتّق الله في نفسك، وحصّن نفسَك بزواجٍ طيّب، بالحلال الذي أباح الله لك؛ لتكونَ سعيدًا في دنياك وآخرتِك بتوفيقٍ من الله، فلربّما [رزقك] الله أولادًا صالحين، يكون فيهم السّعادة لك في الدّنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، وكم يُسبِّب غلاءُ المهور تعطيلَ بعض شبابنا عن الزّواج، وكم تسبِّب الشروط التي يشرِطها الأب أو الأمُّ فتثقل كاهلَ الزوج، فيحجم عن الزّواج، وينتظر الفرَج، متى ما يحصّل هذا المهرَ الكثير والمطالِب المتعدِّدة، والمجتمَع المسلم مطالبٌ بأن يكون مجتمعًا متعاونًا على الخير والتقوى، مجتمَعًا متعاونًا على البرّ والتقوى، يسعى في تذليل أمر الزّواج وتذليلِ الصِّعاب أمام الزّوج، وأن لا يكلَّف ما لا يطيق، وأن يُقتصَر في الأمور على المهمّات، وأن يكونَ النّاس بعيدين عن السّرَف والتبذير في أمور زواجهم، ويسلكوا الطريقَ المستقيم، فذاك ينفع أبناءَهم وينفع بناتِهم، فيكون المجتمع مجتمعًا متعاوِنًا على البرّ والتقوى.
وكم نسمَع من مهورٍ غالية، وكم نسمَع من ولائمَ يُنفَق عليها الأموال، وكم وكم من شروطٍ ثقيلة، لكن المجتمع المسلم عندما يكون بينَه تعاونٌ على هذا الأمرِ المهمّ وتذليل الصعاب وتسهيل الأمور فإنّها مصلحة عامّة للمجتمع بأسرِه.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسّداد والعونَ على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|