الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، حكم سبحانه بالموت على جميع الأنام، فكل ذي روح لا بد وأن يذوق طعم السام، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، وإن طال بها المقام. أحمده سبحانه فقد قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالبقاء والكمال دون نقصان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم، خير من صلى وصام، بعثه الله بالهدى والفرقان.
أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروا الله تعالى على نعمه الكثيرة التي من أجلها وأعظمها بعثة النبي وإرساله إليكم؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
فإن الله تعالى قد أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، أنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، فإنه بلغ وأنذر، وقام لله قومة لم يقمها أحد من الناس قبله، ولن يقومها أحد بعده، فما زال منذ قال له الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:2] قائمًا بأمر الله يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة وينصح الأمة، فأتم الله به النعمة، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نورًا وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به جل وعلا، ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
أيها المؤمنون، إن حياة النبي كلها من أولها إلى آخر لحظة فيها من أعظم دلائل صدقه وعلامات نبوته، فهي تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد بأنه رسول الله حقًا.
أيها المؤمنون، إن خطبة اليوم عن نبأ عظيم وخطب جليل، بل هو من أعظم الأحداث التي مرت بأمة الإسلام.
إنه نبأ وفاة النبي ، ذلك النبأ الذي أذهل العقول وطير الألباب، ففي سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية دهى المدينة خطب لا عزاء له، ففي أواخر صفر في تلك السنة بُدئ المرض برسول الله ، وكان أول ذلك صُداع ألمّ برأسه ، ثم حرارة متقدة كانوا يجدون سورتها ـ أي: شدتها ـ فوق العصابة التي عصب بها رأسه، وثقل برسول الله المرض، فجعل يسأل أزواجه: ((أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟))، ففهمن مراده، فأذن له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت عائشة معصوب الرأس تخط رجلاه في الأرض، واشتدت وطأة المرض على رسول الله في بيت عائشة، فقال : ((أهريقوا علي سبع قرب لم تحلل أوكيتهن؛ لعلي أعهد إلى الناس))[1]، ففعلن رضي الله عنهن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وكان ذلك يوم الأربعاء قبل خمسة أيام من وفاته، وكان مما قال في خطبته تلك: ((إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله))[2]، فبكى أبو بكر، فعجب الصحابة لبكائه، قال الراوي: فكان المخيَّر رسول الله، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله : ((لا تبك يا أبا بكر، إن أمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر))[3]، وكان مما قاله في خطبته تلك: ((أوصيكم بالأنصار، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))[4]، ثم عاد النبي إلى بيته بعد خطبته تلك.
وفي يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه فقال: ((ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا))[5]، فاختلفوا عنده في المجيء بالكتاب، فقال: ((دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه))[6].
ومع شدة مرضه كان يخرج يصلي بالناس، حتى كان ذلك اليوم فصلى بهم المغرب، وعند العشاء زاد عليه الوجع فلم يستطع الخروج إلى المسجد، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر ما بقي من الصلوات في حياة النبي ، وفي أثناء تلك الأيام العصيبة وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا تأخر، فجلس جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي قاعد. واستمر المرض بالنبي .
وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام أحد عشر من الهجرة أقبل المؤمنون إلى مسجد رسول الله ، واصطفوا لصلاتهم خلف أبي بكر رضي الله عنه، فبينا هم كذلك رفع رسول الله الستر المضروب على منزل عائشة، وبرز للناس، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم ابتهاجًا برؤيته ، فأخذوا يفسحون له مكانًا، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسم فرحًا بهم.
قال أنس رضي الله عنه: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة، ثم رجع وأرخى الستر، وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه وبرأ، إلا أن الأمر كان بخلاف ذلك حيث لم يأت على النبي وقت صلاة أخرى، بل اشتد المرض عليه ونزل به في صباح يوم الاثنين، فطفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[7] يحذر ما صنعوا، فكانت هذه إحدى وصاياه عند موته، وكان يقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت))[8] من شدة ما نزل به، وكان يردد وهو في تلك الحال: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم))، قال أنس: حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يفيض بها لسانه[9]، وكان مما أوصى به عند موته أن أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، فلما ثقل رسول الله جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها لما رأت ما نزل بأبيها: وآكرب أبتاه! فقال : ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))[10]، فلما ارتفع ضحى ذلك اليوم نزل برسول الله، فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها، قالت رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ وذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل وبيده سواك يستاك به، فنظر إليه رسول الله، قالت عائشة: فعلمت أنه يريده، فأخذته فقضمته وطيبته ثم دفعته إليه، تقول عائشة رضي الله عنها: فاستن به أحسن ما كان استنانًا، فما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، ثم قال: ((في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى))، ثم قضى رسول الله [11].
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها، كيف لا؟! وقد انطفأ ضياؤها وخبأ سراجها، قال أنس: فما رأيت يومًا قط أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله .
فضجت المدينة بالبكاء، وكان موته قاصمة الظهر ومصيبة العمر، فاشتدت الرزية بموته وعظم الخطب وجل الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، وقام عمر في الناس وأنكر موته، وماج الناس واضطربوا، وكان أبو بكر في أطراف المدينة فلما بلغه الخبر أقبل إلى المسجد فدخل وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إليه حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة، فوجده مسجى ببردٍ حبرة، فكشف عن وجهه وأكب عليه يقبله، ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدًا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إنه خرج رضي الله عنه والناس على الحال التي وصفنا، فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]. فلما سمع الناس ذلك من أبي بكر علموا أن رسول الله قد مات.
قال ابن عباس: فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، ثم غُسل رسول الله وكُفن، وصُلي عليه، ودُفن يوم الثلاثاء في مكانه الذي توفي فيه؛ لقوله : ((ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض))[12].
وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
|