أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله بعث محمّدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وقد خصه الله تعالى بفضائل كثيرة ومناقب عديدة بزّ بها الأولين والآخرين.
ومن أعظم ما يظهر هذه الفضائل ويبدي تلك المناقب والخصائص سيرته الطيبة , فسيرته من أكبر دلائل فضله وعلامات صدقه، فهي آية من آيات صدق رسالته ونبوته.
قال ابن حزم رحمه الله: "فهذه السيرة العظيمة لمحمد لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقّا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى".
كيف لا؟! وسيرته وسنته وأيامه هي التطبيق العملي لدين الإسلام، فهي من أعظم ما يعين على فهم الشريعة، وسيرته من أسباب زيادة محبته والإيمان به ، فذكره وذكر سيرته يحيي القلوب ويداويها من أسقامها وعللها، وقد أجاد من قال:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
وسيرته عند العلماء والأولياء ليست قصة تتلى ولا قصائد تنشد ولا مدائح تنسج، بل هي سنة يستن بها أولو الألباب والنهى، وبها توزن الأقوال والأعمال والرجال، وهذا بعض ما جعل السلف رحمهم الله يحتفون بسيرة النبي المختار ويخصونها بالكتب والمؤلفات.
أيها المؤمنون، إن السيرة النبوية المطهرة حافلة بالعبر والدروس، مليئة بالأحداث الكبار والأخبار العظام.
ومن تلك المنارات البيضاء والأحداث الكبار التي غيرت مجرى التاريخ البشري وحولت وجهه وأشرقت الأرض بنورها ضياء وابتهاجًا حدث هجرته من مكة البلد الحرام إلى طيبة مدينة الأنصار.
وإليكم طرفًا من نبأ تلك الحادثة المعظم وذلك التاريخ المجيد.
قال أصحاب السير: لما بلغ ضيق قريش بالنبي ودعوته منتهاه استقر رأي قريش بعد المشاورة والمداولة على قتله كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، أتاه جبريل وأخبره الخبر وقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك؛ فإن الله يأمرك بالهجرة, فخرج رسول الله وقد اختار لصحبته صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها أبا بكر الصديق رضي الله عنه, فلحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف, فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها لا يسمع شيئًا مما يكيده الكفار لرسول الله إلا وعاد ليخبره بذلك، يفعل ذلك كل ليلة في تلك الليالي الثلاث. فطفق المشركون يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب، ينقبون في جبال مكة وكهوفها، حتى وصلوا إلى قريب من الغار، فأخذ الروع من أبي بكر كل مأخذ، ورسول الله يقول: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))[1]، وذلك ما قصه الله تعالى في كتابه: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فأعمى الله أعين الكفار عن نبيه وصاحبه.
فلما مضت الليالي الثلاث وخمد حماس المشركين في الطلب جاء عبد الله بن أبي أريقط فارتحل معه النبي وصاحبه قاصدًا المدينة النبوية، غير أن قريشًا ساءها أن تخفق في استرجاع محمد وصاحبه، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما حيين أو ميتين، وقد أغرى هذا العطاء السخي عددًا غير قليل من شباب العرب، فجدوا في طلب النبي وصاحبه، وركبوا المخاطر وتحملوا المشاق، وكان من أولئك الشبان سراقة بن مالك بن جعشم فخرج في طلب الرسول .
واسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى نبأ ما جرى لسراقة نفسه، قال رضي الله عنه: بينما أنا جالس في مجالس قومي بني مدلج, إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه, قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت لهم: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فركبت فرسي وانطلقت، حتى قربت من رسول الله فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، ثم قمت فامتطيت فرسي ثانية وزجرتها فانطلقت فدنوت منهم، حتى سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فلما قربت منهم ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلما زجرتها واستوت قائمة خرج لأثر يديها دخان ساطع في السماء، فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في قلبي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر الرسول ، فأخبرت رسول الله خبر الناس وعرضت عليه الزاد والمتاع، فقال: ((لا حاجة لنا، ولكن أخفِ عنا الطلب))، فجعلت لا ألقى أحدًا في الطلب إلا رددته، وقلت لهم: كفيتكم هذا الوجه. فسبحان مقلّب القلوب؛ خرج أول النهار جاهدًا عليهما، وأمسى آخره حارسًا لهما، وقد أعرب سراقة في أبيات قالها عن سر هذا الانقلاب مخاطبًا أبا جهل لما عاتبه على ما فعل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمـدًا رسول ببرهان فمن ذا يقاومـه
عليـك بكف القوم عنه فإنني أرى أمـره يومًا ستبدو معالمه
أيها المؤمنون، لقد شاع خبر خروج النبي من مكة في جوانب الصحراء، فعلم به البدو والحضر، وكانت ممن ترامت إليهم الأخبار وطرقتهم الأنباء أهل المدينة النبوية، فكانوا يخرجون يرتقبون وصول رسول الله ، ويتشوقون إلى مقدمه الكريم ومطلعه البهي كل صباح يمدون أبصارهم وقلوبهم إلى حيث تنقطع الأنظار؛ يرقبون مجيء رسول الله ، فإذا اشتد الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد.
وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام ثلاثة عشر من البعثة النبوية خرج المهاجرون والأنصار على عادتهم ينتظرون الرسول ، فلما حميت الشمس رجعوا إلى بيوتهم، فما لبثوا أن سمعوا هاتف السعادة يصيح ويصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرون، فارتجت المدينة تكبيرًا، ولبست طيبة حلة البهجة والسرور، وخرج أهلها يستقبلون رسولهم الكريم رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، فخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه، والوحي ينـزل عليه، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
فبنى مسجد قباء أولاً في بني عامر وبني عوف، وهذا أول مسجد أسس بعد النبوة، ثم نزل بعد ذلك في بني النجار أخواله بتوفيق من الله، ثم بنى مسجده حيث بركت الناقة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وغدت طيبة بمقدم رسول الله عاصمة الإسلام ودار الهجرة الغرة لأهل الإيمان. فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
|