أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، اتقوا الله واعبدوه وحده لا شريك له، وأفردوه سبحانه وتعالى بالرغبة والرهبة والخوف والرجاء والسؤال والتوكل، فإن التوكل جماع الإيمان، فإنه لا إيمان لمن لا توكل معه، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال عز جنابه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122].
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بصدق الاعتماد عليه جل شأنه في جلب كل خير.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنه لا يستقيم لكم إيمان إلا بالتوكل على الله، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون حوائجهم إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً.
أيها المؤمنون، إن من أكبر الآفات وأعظم الآثام التي بلي بها كثير من الناس ضعف التوكل على الله، والتعلقُ بغيره، والاعتماد على سواه.
أيها المؤمنون، إن علامات ضعف التوكل على الله تعالى كثيرة في حياة الناس اليوم:
فمن تلك المظاهر أن كثيرًا من الناس إذا نزلت بهم الأمراض أو أصابتهم الأسقام تعلقت قلوبهم بالأسباب الحسّيّة، وغفلوا عن قوله عز وجل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
فتجد فريقًا ممن أصيبوا بالأمراض علقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية، ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء. ومنهم فريق جاب الفيافي والقفار، وقطع الصحاري والبحار، وشرَّق وغرَّب في الأمصار، يلاحق السحرة والمشعوذين يرجو منهم رفع البلاء وكشف الضراء، فخربوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم، ففسدت قلوبهم، ووهنت أبدانهم، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
فاتقوا الله عباد الله، فإن من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ، فكيف ـ يا عبد الله ـ تطلب الشفاء من السحرة والكفرة الذين لا حول لهم ولا قوة، وتغفل عن الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟! كيف تيأس من روحه ورحمته وقد وسعت رحمته كل شيء؟! أما سمعت نبي الله أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]؟! ألم تر كيف أجابه الكريم المنان: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]؟!
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم إياكم إياكم أن تأتوا هؤلاء الكهنة والمشعوذين تحت أي ظرف، فلأن تموت ـ يا عبد الله ـ مريضًا موحِّدًا مؤمنًا خير لك من أن تموت صحيحًا معافًى مشركًا، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].
أيها المؤمنون، إن من مظاهر ضعف التوكل أنهم إذا نزلت بهم المصائب وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع، وفروا إلى غير مهرب، فتجد الواحد من هؤلاء إذا نالته نائلة توجه إلى مخلوق مثله يطلب شفاعته وغوثه وتحقيق طلبه، ولو أن هؤلاء صدقوا الله لكان خيرًا لهم، طرقوا كلَّ باب وسلكوا كل سبيل إلا أنهم غفلوا عن الله الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، فإنه سبحانه قد قال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، أي: كافي من يثق به في نوائبه ومهماته، يكفيه ما أهمه وأقلقه.
فاتقوا الله عباد الله، وأنزلوا حاجاتكم بالذي ينادي كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
جاء رجل إلى الربيع بن عبد الرحمن يسأله أن يكلم الأمير في حاجة له، فبكى الربيع رحمه الله ثم قال: أي أخي، اقصد إلى الله عز وجل في أمرك تجده سريعًا قريبًا؛ فإني ما طلبت المعونة من أحد في أمرٍ أريده إلا الله فأجده كريمًا قريبًا لمن قصده وتوكل عليه.
عباد الله، إن من مظاهر ضعف التوكل عند بعض الناس التشاؤم والتطير ببعض الأسماء أو الأشخاص أو الأرقام أو الألوان أو الأيام أو الشهور وغير ذلك؛ فإن ذلك من الشرك المحرم، قال : ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))[1].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله جل وعلا، ولا يدفع السيئات إلا الله سبحانه، فعلقوا قلوبكم بالله يا عباد الله، واعتقدوا قوله جل وعلا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].
|