أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإن الله تعالى خلقكم لأمر عظيم جليل، بينه لكم فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون [الذريات:56]، وقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. فالله قد خلقكم، إنسكم وجنكم، ذكركم وأنثاكم؛ لعبادته تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
أيها المؤمنون، إن مفتاح العبودية الأعظم هو شهادة أن لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله قامت بها السماوات والأرض، ولا إله إلا الله فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا إله إلا الله أول دعوة الرسل لأقوامهم، ولا إله إلا الله كلمة التقوى والإسلام ومفتاح الجنة دار السلام.
أيها المؤمنون، إن فضائل لا إله إلا الله عظيمة كثيرة، فمن ذلك أنها أول ما يطالب بها العبد ليدخل في الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه، ففي قصة بعث معاذ إلى اليمن: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى)).
ومن فضائلها أن بها يعصم دم العبد وماله، قال النبي : ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)) رواه مسلم[1].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها تحرم على النار من قالها صادقًا مخلصًا، ففي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك قال: قال رسول الله : ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله))[2].
ومن فضائلها أن بها يدخل العبد الجنة دار السلام، قال النبي : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيحجب عن الجنة))[3].
ومن فضائلها أنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، فعن معاذ قال: قال رسول الله : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه أبو داود بسند صحيح[4].
ومن فضائل هذه الكلمة المباركة أنها أفضل ما نطق به العبد، ففي الترمذي بسند صحيح قال رسول الله : ((وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له))[5].
ومن فضائل هذه الكلمة الطيبة أن من قالها بإخلاص حصلت له شفاعة النبي ، ففي الصحيح أن النبي قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه))[6].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنه لا يعدلها شيء في الميزان، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((إن نبي الله نوحًا لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاصّ عليك الوصية، آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين؛ آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كِِفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مُبْهَمة قَصَمتْهن لا إله إلا الله)) رواه أحمد بسند جيد[7].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها إذا رسخت في قلب العبد بددت ضباب الذنوب وغيومها، فعن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول الله عز وجل: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثَقُلت البطاقة)) رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد صالح[8].
أيها المؤمنون، إن من فضائل لا إله إلا الله الكبار أنها تثمر العمل الصالح، فجميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة إنما هي ثمرة هذه الكلمة المباركة، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25]، فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، فمن رسخت هذه الكلمة الطيبة في قلبه إيمانًا وتصديقًا، انقادت جوارحه لأمر الله تعالى عملاً وتطبيقًا.
فلا إله إلا الله ما أعظم هذه الكلمة وأكثر فضائلها.
أيها الإخوة المؤمنون، لنا مع هذه الفضائل وقفتان:
الأولى: في معنى هذه الكلمة الطيبة، فإن كثيرًا من الناس لا يعرفون معناها، وقد لا يدركون حقيقة مضمونها، ولا شك أن هذا سبب كبير في تخلف هذه الفضائل عن قائلها.
أيها المؤمنون، إن معنى قولكم: "لا إله إلا الله" أنكم تقرون بأنه لا معبود بحق إلا الله تعالى، فلا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات القلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل غير الله تعالى، ولا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات من صلاة وذبح ونذر ودعاء غيره سبحانه، بل الواجب أن يفرد جل وعلا بجميع العبادات الظاهرة والباطنة.
فإن أخل العبد بشيء من ذلك، فصرف العبادة لغير الله، فإن لا إله إلا الله لا تنفعه بشيء، بل هو مشرك كافر متوعَّد بقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار [المائدة:72]. فاحذروا الشرك ـ يا عباد الله ـ فإن خطره عظيم.
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم.
الوقفة الثانية: أنه لا يكفي في حصول تلك الفضائل والخيرات المترتبة على قول: "لا إله إلا الله" مجرد قولها فقط. قال ابن القيم رحمه الله: "فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام"، ثم قال رحمه الله: "فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها، في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان".
أيها المؤمنون، إن قول القلب الذي لا بد من توفّره لتحصيل تلك الفضائل وإدراك تلك المناقب هو أن تكون أعمالك ـ يا عبد الله ـ كلها لله، وأقوالك لله، عطاؤك لله ومنعك له، حبك لله وبغضك له، فمعاملاتك لوجه الله وحده، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا. فمن صاغ قلبه وقوله وعمله على ذلك فإنه من أهل لا إله إلا الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أيها المؤمنون، اقدروا لهذه الكلمة العظيمة قدرها، فإنها مفتاح النجاة وباب السعادة في الدنيا والآخرة.
|