أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، صفاءُ المرء وهناؤه وتوازنه واستقرارُه إنما يكمن في صِدق انتمائه لدينِه وتمسّكه بشِرعةِ ربّه وعَضِّه عليها بالنواجِذ، بعيدًا كلَّ البعد عن مزالقِ الانحراف ومكامِن الرِّيَب ونزَعات الميل إفراطًا وتفريطًا.
يحرص المرءُ المسلم بمثل هذا التوازُن أن يحيا حياةً طيبة، مِلؤها حسنُ الاستقامة على الدّين والثبات عليه أمام العواصِف والزّوابع التي تتتابَع حثيثةً بين الفينة والأخرى ليميزَ الله بها الخبيثَ من الطيب، ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعض، فيركمَه جميعًا، فيجعله في جهنّم.
وحادِي المؤمنِ الصادق وَسطَ هذا الركام من المتغيّرات هو قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
روى الإمام مسلم في صحيحه عن سفيانَ بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثمّ استقِم)).
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه الوصيّة الجامعةِ حينما تُوضِّح هويّةَ المسلم التي ينبغي أن يحيا ويموتَ عليها، وهي الاستقامة الحقّةُ دونَ عِوَج أو انحرافٍ، الاستقامة الحقّةُ دونَ تخاذُلٍ أو تراجع، الاستقامة الحقّةُ الجامِعة لأركانها وركائِزها الثلاث، وهي استقامة اللسان أخذًا من قوله : ((قل: آمنت بالله))، وكذا استقامةُ القلبِ والجوارح أخذًا من قولِه : ((ثم استقِم))؛ ذلك أنّ مجرّدَ الادعاءِ باللسان لا يُعَدّ استقامةً أصلاً، كما أنّ الاستقامة بالجوارح والقلبُ خالٍ منها لا يُعدُّ استقامَة أيضًا، ولا هي من بَابتِها، ولذا عابَ الله قومًا قد ادَّعوا الاستقامة الحقّةَ على الإيمان وأنهم بلَغوا مقامًا أعلى ممّا هم عليه حقيقةً، فقال سبحانه: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
ثمّ اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ أعظمَ أنواع الاستقامة هو استقامةُ المرء على التوحيدِ الخالِص، وذلك في معرفةِ الله وعبادتِه وخشيته وإجلالِه ورجائه وخوفِه ودعائه والتوكّل عليه وعدَم الإشراك به أو الالتِفات إلى غيرِه سبحانه، وقد فسَّر أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه قولَ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] بأنهم الذين لم يلتفِتوا إلى غير الله.
أيّها الناس، إنّ الاستقامة على دين الله لَذاتُ شأنٍ عظيم، في حين إنها محفوفةٌ بالمخاطِر من كلِّ جانب، ومِن حولها الفتنُ المتلاطمة التي تؤُزّ صاحبَها أزًّا، فيُدَعَّى إلى مواقَعَتها دعًّا، كلُّ ذلك يجعَل الثباتَ على الاستقامة والعضَّ عليها كالقبضِ على الجمر في راحةِ اليد، ولذا كانَ رسول الله يكثِر التعوُّذَ بالله من ذلك، كما في الموطّأ أنه كان من دعاءِ النبي : ((اللّهمّ إذا أردتَ بالناس فتنةً فاقبِضني إليك غيرَ مفتون)).
إنَّ مما لا شكَّ فيه ـ عبادَ الله ـ أنّ تواليَ الفتن على المرء وكثرةَ ملامَسَتها له ولمجتَمَعه وسوقِه لتوقِع في نفسِه شيئًا من الخَلَل أو التقصيرِ الذي لا يخلو منه مسلِم ولا يكاد، ومن لم يصِبه لظَى الفتن فلا أقلَّ من أن يصيبَه دخَنُها، غيرَ أنّ الشارع الحكيم لم يدَع المسلم سَبَهللاً تتهاوَى به الفتن دونَ دِلالةٍ إلى ما يعصِمه من ذلكم أو يجبُر الخَلَلَ ويمحوه إن وُجِد، فأرشدَ الشارع الحكيم إلى الاستغفارِ المقتضي للتّوبةِ النصوح والرجوعِ إلى الاستقامةِ؛ ليكونَ ذلك سُلوانًا أمامَ المَوجِ الكاسر والريحِ العاصِف، فقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6].
ومن هذا المنطلَقِ قال النبيّ لمعاذِ بن جبل رضي الله عنه: ((اتَّق الله حيثُما كنتَ، وأتبِع السيّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) رواه الترمذي، وقد قال الباري جلّ شأنه في ذلك: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين [هود:114].
عبادَ الله، إنّنا حينما نحرِص على الاستقامة والثّبات على الدين لنعلمُ صعوبةَ ذلك وجهادَ النفس فيه وأنَّ بلوغَها حقَّ البلوغ دونَه من الصِّعاب والعقباتِ الشّيءُ الكثير، بيدَ أنّ هذا كلَّه غيرُ معفٍ كلَّ مسلمٍ وكلَّ مجتمع من السعيِ في تحصيلِها وبذل الوُسع والمستطاع في إقامَتِها في واقعِ الحياة، مع استحضار السّداد والمقارَبَة لقولِ النبي : ((استقيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصّلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاّ مؤمِن)) رواه أحمد وابن ماجه، وفي روايةٍ لأحمد: ((سدِّدوا وقارِبوا)).
عبادَ الله، إن كان ثمّةَ أمرٌ يجب التفطُّن له من خِلال هذا الطرحِ فهو أنّ الدعوة إلى الاستقامةِ أو ادِّعاءها والواقعُ عريٌّ عنها لهو خلَل فادحٌ وشرخ غيرُ يسير، وإنّ إقناع النفس وتخديرَها بكمالٍ زائف لا يحتاج المرءُ والمجتمع معه إلى تصحيحٍ وإصلاح لهو أمرٌ خِداج، خِداج غيرُ تمام؛ لأنّ الكمالَ والاعتدال إنما يكون في حالِ موافقة العمل للقولِ والباطن للظّاهر، وقد ذمَّ الله قومًا لم يحقِّقوا جانبَ التوازُن في حياتهم، فغلَب الادّعاء باللسان والقولِ جانبَ العمل والتطبيق، فقال سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ويلٌ لمن لم يعلَم ولم يعمَل مرّةً واحدة، وويل لمن علِم ولم يعمَل سبعين مرّة)، وقال الحسن البصريّ رحمه الله: "اعتبروا الناسَ بأعمالهم، ودَعوا أقوالهم، فإنّ الله لم يدع قولاً إلاّ جعل عليه دليلاً من عملٍ يصدّقه أو يكذّبه، فإذا سمعتَ قولاً حسنًا فرُويدًا بصاحبه، فإن وافق قولُه فعلَه فنَعَم ونِعمَةُ عَين"، وقد ذكر الإمام مالك رحمه الله أنّه بلغه عن القاسمِ بنِ محمد رحمه الله أنه قال: "أدركتُ الناسَ وما يعجِبهم القول، إنما يعجِبهم العمل".
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ العيبَ كلَّ العيب والشّينَ كلَّ الشَّينِ أن يكذِّب فعلُ المرء قولَه، أو أن تكونَ حاله واقعًا تخالِف مقالَه ظاهرًا، فإنّ مدَّعي الاستقامةِ على طاعةِ الله يجب أن لا يكونَ في واقعه غاشًّا ولا مضلِّلاً ولا كذّابًا ولا مرائِيًا ولا سارِقًا ولا زانِيًا ولا ظالمًا ولا معتَدِيًا ولا هاتِكًا لحُرمةٍ أو ناقِضًا لعهدٍ ولا منكِّصًا لشرعِ ربِّه أو مهمِّشًا له، وإنَّ مثلَ ذلكم الإخلالِ لهو كفيلٌ بكثرةِ الاضطرابات وضَعف الأمانةِ وتفشِّي القتل والتّخريب والاغتيالاتِ وإهدار الحقوق والاعتداءِ على الدّين والنّفس والمال والعِرض والعقل، ولا زوالَ لهذه الفواجعِ إلاّ بالرجوع إلى الله والتمسُّك بشَرعِه والنظرِ في مواضعِ الخلل، ومِن ثَمَّ ترميمها وتصحيحها؛ لنحيَا حياةً آمنة رضيَّة بعيدة كلَّ البعد عن الصّخَب والعَطَب.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن اللهِ، وإن خطأً فمن نفسي والشّيطان، وأستغفر الله إنّه كانَ غفّارًا.
|