وبعد: إخوة الإيمان، كان من المفترَض أن نواصل الحديث عن بعض المعاصي التي بدأنا بتناولها فيما مضى من الخطب، ولكن نرجئ الحديث عن المعاصي إلى الجمعة القادمة بإذن الله، ونتكلم اليومَ عن مناسبة المولد النبوي التي توافق هذا الشهر شهر ربيع الأول، نتكلم عن هذه المناسبة وأهميتها وواجبنا نحوها، فهي مناسبة مولد خير البشر ومن بعثه الله رحمة للعالمين، يقول تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
لقد ولد في وقت كانت الدنيا فيه تغرق في ظلام الشرك والجاهلية، وكانت جزيرة العرب تعيش أرذل أيامها وأسوأ عصورها، فكانت الأصنام تعبد والخمر تشرَب والبنات توأد، وكانت القبائل يغير بعضها على بعض، وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة، فولد هذا النبي الكريم الذي أراد الله سبحانه بحكمته أن يرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
ولد رسول الله يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، واختلف في أي يوم من هذا الشهر ولد، فقيل: إنه ولد في اليوم الثاني من هذا الشهر، وقيل: ولد في اليوم الثامن، وقيل: في اليوم العاشر، وقيل: في اليوم الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وسمي عام مولده بعام الفيل نسبة إلى فيل أبرهة الذي جاء لهدم الكعبة، فرده رب البيت عن بيته وأهلك أصحاب الفيل، وخلد الله سبحانه هذه الحادثة بأن أنزل سورة من سور القرآن تتلى منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تروى قصة أصحاب الفيل وما حلّ بهم من انتقام العزيز الجليل، وسماها سورة الفيل، يقول سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [سورة الفيل].
لقد كان مولده ثم بعثته إيذانا ببزوغ فجر جديد على البشرية، تحرم فيه عبادة الأوثان وتطفَأ فيه نار المجوس، ويخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه، وتبطل فيه الكثير من الأديان المحرفة. عندما نتكلم عن مولد رسول الله فإن هذا يعني أننا نذكر شمائل هذا النبي وأخلاقه وأوامره ونواهيه وما ينبغي علينا من واجبات نحو هذا كله.
من أهم واجباتنا نحو النبي حبه، فحبه وحب ما جاء به هو عين الإيمان، لهذا يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار))، وعن أنس أن رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجه أحمد والشيخان.
هذا محك وميزان عظيم لا بد للمؤمن أن يحققه، ولا بد أن يتصف به، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التحفة العراقية: "محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين"، ولكن ـ إخوة الإيمان ـ كيف تكون هذه المحبة؟ فكل مسلم يدَّعي حب الله وحب رسول الله ، وليس ثمة على وجه الأرض مسلم يقول بأنه لا يحب الله ورسوله ، فما دليل هذه الدعوى وهذه المحبة؟ ما هو الدليل الذي يتبين به الصادق من الكاذب والمصيب من المخطئ؟
إن هذا الدليل ـ عباد الله ـ سهل يسير وواضح تمام الوضوح، سطره القرآن الكريم وبينه في آية تتلى على مر الزمان ويقرؤها المسلمون من أيام رسول الله وإلى يومنا هذا، يقول سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. دليل المحبة وبرهانها الاتباع والطاعة، فلا يمكن أن تكون محبة بدون اتباع وطاعة، هذا هو دليل الصدق.
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذًا فالإيمان بأن محمدًا رسول الله يقتضي محبته، ومحبته تقتضي اتباعه، قال سفيان الثوري رحمه الله: "المحبّة اتباع الرسول ".
ولكن ـ إخوة الإيمان ـ لننظر في حال الأمة، هل حققت هذه الأمور الواجبة نحو رسول الله حتى تكون صادقة مع الله ورسوله، وحتى تؤدي ما أمرها به الله ورسوله، وحتى تنجو مما حذر منه وتوعدنا به الله ورسوله؟ لا شك كما قلنا أنه لا أحد في الأمة لا يحب رسول الله ، ولكن هل حققت الأمة دليل المحبة ألا وهو الاتباع؟ هل اتبعت الأمة رسولها ؟ هل استنّت بسنته واهتدت بهديه؟ وهل اتبعت تعاليمه النبوية في كل أمورها؟ ولننظر إلى هذه المناسبة العظيمة مناسبة مولده ، هذا اليوم العظيم الذي جعله الله يوم رحمة للعالمين، ماذا فعلت الأمة في هذا اليوم؟ وكيف حولته من يوم نعمة إلى يوم نقمة، من يوم هدوء وسكينة وخشوع إلى يوم إزعاج وضوضاء، من يوم كان إيذانا بإخماد نار المجوس إلى يوم تشتعل فيه الشوارع والأزقة بالنيران؟ هل يُعقل ـ أيها المسلمون ـ أن يكون احتفالنا بالنبيّ الذي أرسله الله رحمة للعالمين فقال عز من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، هل يعقل وهل يجوز أن يتحول هذا اليوم من يوم رحمة ونور إلى يوم تمتلئ فيه المستشفيات بالمصابين من جراء الحرائق والمفرقعات، يوم يرقص فيه الناس ويغنون في الشوارع ويختلط فيه الرجال بالنساء، وتعطل فيه الطرقات ويتلوث فيه الجو بالأدخنة وتحرق فيه ملايين الدينارات؟ هل هذا يُرضي الله سبحانه ويرضي رسوله ؟
ونحن لو سألنا من يفعل هذه الأمور: لماذا تفعل هذا؟ لقال: لأني أحب رسول الله ، ولكن هل هناك أحد أحب رسول الله كحب صحابته له الذين ضربوا المثل الأعلى في حبهم له؟! يقول عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم: ما كان أحد أحب إلي من رَسُول اللَّهِ ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه. وعندما سُئل زيد بن الدثنة قبل أن تقتله قريش: يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك، قال: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي. ولقد شهد على هذا الحب العدو قبل الصديق، حتى إن أبا سفيان قال عندما كان مشركا: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.
هذا هو حب الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله ، وهذا مبلغ تقديرهم له، فلماذا لم يحتفلوا بمولده مثل احتفالنا؟ وكيف يقول من يفعل تلك الأفعال الشائنة التي ذكرناها أنه يفعلها حبا لرسول الله ؟! أليس في هذا اتهام لمن لم يفعل هذه الأفعال من صحابة وغيرهم بأنهم لا يحبون رسول الله ؟!
أيها الناس، إن الاحتفال بمولد رسول الله وذكر مولده لا يكون بهذه الطريقة، بل يكون باتباع سنته ومعرفة سيرته، الاحتفال بمولده لا يكون في يوم في السنة، فهذا بخل عليه ، بل الاحتفال به يكون كل يوم؛ بشكر الله على بعثته وكثرة الصلاة عليه واتباع هديه، الاحتفال به يكون بصيام يوم مولده الذي يأتي كل أسبوع، عن أبي قتادة أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه)) أخرجه مسلم، فمن أراد الاحتفال الحقيقي بمولد النبي وأراد شكر الله على هذه النعمة حقا فليصم يوم الاثنين من كل أسبوع، هكذا نكون فعلا محتفلين بمولد رسول الله ، وهكذا نكون شاكرين لله حقا على هذه النعمة العظيمة التي أخرجنا بها من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.
فاتقوا الله عباد الله، وأعطوا هذا النبي العظيم وهذا الرسول الكريم حقه من التوقير والتعزير والاحترام امتثالا لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
|