أيُّها الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا يوم عظيم مشهود جليل، يوم كريم مبارك فضيل. عظيم جليل لأنَّ الله عزَّ وجل عظَّم حرمته، وعظَّم فيه حرمات المسلمين في دمائهم وفي أعراضهم وفي أموالهم، وجعل ثواب العمل الصالح فيه أعظم أجرا، وجعل الذنب فيه أخطر وزرا، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعدلون صيامه بصيام سنتين، كما رواه الطبراني في معجمه الأوسط بسند حسن.
وإنَّ يومكم هذا يوم كريم مبارك فضيل، لأنَّ فيه من البركات العظام والأيادي الجسام ما لا نظير له في سائر أيام العام، فلا جرم أن كان هذا اليوم العظيم المبارك من مفاخر الإسلام.
ففيه أكمل الله الدين، وأتمَّ نعمته على المؤمنين، فقال عزَّ وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أنَّ رجلاً يهوديًّا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتَّخذنا ذلك اليومَ عيدا، فقال عمر: أيُّ آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا، فقال عمر: إنِّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله قائم بعرفة.
معشر الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا يوم حافل بالهبات والخيرات، جمُّ المنح والبركات؛ فيه يُعتق الله عزَّ وجل من العباد من النار ما لا يعتق فيما سواه، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)).
وفي عشيَّة هذا اليوم ينزل ربُّنا عزَّ وجل إلى السماء الدنيا حتَّى يدنو من الحجَّاج بعرفة، كما يليق بجلاله وعلوِّه، ففي تمام حديث عائشة المذكور قريبا عن النبيِّ : ((إنَّ الله عزَّ وجل يدنو ـ يعني من الحجَّاج ـ ثم يباهي بهم الملائكة))، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح مجوَّد عن عبد الله بن عمرو عن النبيِّ قال: ((إنَّ الله تعالى يباهي ملائكته عشَّية عرفة بأهل عرفة، يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا)).
ومن بركة هذا اليوم العظيم أنَّ صيامه لمن لم يحجَّ يكفِّر ذنوب العبد سنتين كاملتين: السنةَ التي قبله، والسنةَ التي بعده، فعن أبي قتادة قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة؟ فقال: ((يكفِّر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم.
ومعلوم أنَّ هذا بالنسبة لمن لم يحجَّ، أمَّا الحجَّاج فالمشروع لهم هو الإفطار في هذا اليوم، اقتداء بالنبيِّ .
أيُّها الحجَّاج، إنَّ من شواهد العظمة في هذا اليوم أنَّ الله جلَّ جلاله جعله يومًا مشهودا، وبهذا فسِّر قوله تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]، فالشاهدُ يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، لأنَّ المسلمين يحتشدون في هذا اليوم العظيم بعرفة، من كلِّ حدب وصوب، ومن كلِّ فجٍّ عميق، يفدون من شعوب وقبائل شتَّى، وبألوان وألسن مختلفة، موحِّدين ربَّهم مهلِّلين، مجيبين نداءه ملبِّين، فكان حقًّا يومًا من أيام المسلمين مشهودا.
ومن شواهد عظمة هذا اليوم إقسام الله عزَّ وجل به، وباليوم الذي يليه، وبالعشر التي تشتمل عليه بين يديه، فقال عزَّ وجل: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ: ليال عشر ذي الحجَّة، وَالشَّفْعِ: يوم النحر، وَالْوَتْرِ: يوم عرفة) رواه الطبراني والبيهقي بسند صحيح.
فالشفع الذي أقسم الله سبحانه به هو يوم النحر، وهو يوم الحجِّ الأكبر، وذلكم غدا، وهو شفع لأنَّه اليوم العاشر من شهر ذي الحجَّة، والوتر هو اليوم التاسع، وهو يومكم هذا، وهو يوم القرِّ.
فأفضل الأيَّام عند الله عزَّ وجل هذه العشر الأوائل من شهر ذي الحجَّة، ثمَّ اختار الله تعالى من هذه العشر هذين اليومين التاسع والعاشر، وله الحكمة البالغة فيما يختار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
فيومنا هذا يومُ عرفة، وهو يوم القرِّ، وغدًا يوم عيد النحر، وهو يوم الحجِّ الأكبر، هذان اليومان هما أفضل الأيام وأعظمُها حرمة عند الله عز وجل، فعن عبد الله بن قُرط الثمالي عن النبيِّ قال: ((إنَّ أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثمَّ يوم القر)) يعني عرفة. رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
فاشتمل هذا الحديث على فائدتين عظيمتين؛ إحداهما: تعظيم الربِّ عزَّ وجلَّ لهذين اليومين على سائر الأيام، ولهذا خطب النبيُّ في كلٍّ منهما، وأكَّد فيهما على حرمتهما وعظمتهما، وقرن ذلك بحرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، فروى مسلم في صحيحه أنَّ النبيَّ خطب الناس في يوم عرفة فقال: ((إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ثمَّ حثَّهم على الاعتصام بكتاب الله عزَّ وجل.
ثمَّ خطبهم خطبة أخرى في يوم النحر بمنى عند الجمرات فقال: ((أيُّ يوم هذا؟)) قالوا: يوم النحر، قال: ((فأيُّ بلد هذا؟)) قالوا: البلد الحرام، قال: ((فأيُّ شهر هذا؟)) قالوا: الشهر الحرام، قال: ((هذا يوم الحجِّ الأكبر، فدماؤكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة هذا البلد، في هذا اليوم))، ثم قال: ((هل بلَّغت؟)) قالوا: نعم، فطفق رسول الله يقول: ((اللهمَّ فاشهد)). هكذا ساقه أبو داود وابن ماجة، وعلَّقه البخاري في صحيحه، وإسناده صحيح.
تأمَّلوا ـ معشر الحجَّاج ـ تأكيد النبيِّ في خطبة عرفة ثمَّ في خطبة يوم النحر بمنى على تعظيم هذين اليومين وشدَّة حرمتهما، وأنَّ حرمة المسلم في دمه وعرضه وماله مثل حرمة هذين اليومين في هذا الشهر الحرام، في هذا البلد الحرام على الدوام إلى يوم القيامة.
فاتَّقوا الله عباد الله في الدماء والأموال والأعراض، هذه الفائدة العلمية الأولى.
والفائدة الثانية: أنَّ يوم عرفة مع شدَّة حرمته وعظمته فإنَّ اليوم الذي يليه وهو يوم النحر غدًا أفضل وأعظم حرمة عند الله من يوم عرفة، ولذلك سمَّاه الله يوم الحجِّ الأكبر، في قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
وبهذا فسَّره النبيُّ فقال: ((يوم الحجِّ الأكبر يوم النحر)) علَّقه البخاري في صحيحه، ووصله أبو داود وابن ماجة بسند صحيح.
غدًا ـ معشر الحجَّاج ـ يوم النحر، غدًا ـ معشر الحجَّاج ـ يوم الحجِّ الأكبر. وما نسبة يوم عرفة إلى يوم النحر إلاَّ كنسبة الطهارة إلى الصلاة، فإنَّ عرفة مقدَّمة بين يدي النحر، ففي عرفة يكون الوقوف والتضرُّع والابتهال والاستغفار والدعاء، وغدًا تكون الوفادة والزيارة لبيت الله، فكأنَّ العباد قد تطهَّروا من ذنوبهم في يوم عرفة، فأذن لهم ربُّهم يوم النحر في زيارته والدخول عليه في بيته، ولهذا كان في يوم النحر رمي الجمار وحلق الرؤوس وتقصيرها، وتقديم القرابين وطواف الزيارة بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ومعظم أفعال الحج ومناسكه، فلا جرم أن كان يوم النحر يوم الحج الأكبر واليوم الحرام الأعظم. فيوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي يوم النحر.
روى البيهقي في كتابه الفذ "فضائل الأوقات" عن أبي سليمان الداراني أحد الصالحين رحمه الله تعالى قال: سئل بعض السلف عن الوقوف بعرفة: لِمَ لمْ يكن بالحرم؟ فقال: لأنَّ الكعبة بيت الله، والحرم باب الله، فلمَّا قصدوه وافدين أوقفهم بالباب يتضرَّعون. فقيل له: لِمَ أوقفهم بالمزدلفة بالمشعر الحرام؟ قال: لأنَّه لمَّا أذن لهم بالدخول عليه أوقفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة، فلمَّا أن طال تضرُّعهم أذن لهم بذبح قربانهم، فلمَّا قضوا تفثهم وقرَّبوا قربانهم فتطهَّروا بها من الذنوب التي كانت لهم أذن لهم بالزيارة إليه على الطهارة.
فتأهَّبوا ـ معشر الحجَّاج ـ الواقفين بعرفة كي تفدوا غدًا يوم الحجِّ الأكبر وقد طهُرتم من ذنوبكم في يومكم هذا، فأكثروا فيه من الاستغفار والتهليل والدعاء.
أيُّها الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا مع ما نوَّهت به لكم من عظمته وفضله، وما أشدت به لكم من بركته وخيره، فإنَّ السلف الصالح لم يكونوا في هذا اليوم إلاَّ خائفين وجلين يغلب عليهم الحياءُ من الله وخشيتُه، مع قوَّة يقينهم أنَّه يوم مغفرة وعتاق من النار، فكانوا مع حسن ظنِّهم بربِّهم مؤنِّبين موبِّخين لأنفسهم.
قال مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير أحد الصالحين من التابعين وهو واقف بعرفة: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بعرفة: "ما أشرفه من موقف لولا أنَّني فيهم"، وقال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ الله لا يغفر له.
فأيقنوا ـ معشر الحجَّاج ـ بعموم مغفرة الله لكم في هذا الموقف العظيم، وأحسنوا ظنَّكم بربِّكم الكريم، وأنَّه ذو قدرة على مغفرة الذنوب جميعًا، وإن كانت كالجبال وإن بلغت عنان السماء، فحقِّقوا رجاءكم في الله، دون أن يصرفكم ذلكم عن الخوف والحياء منه.
معشر الحجَّاج، اغتنموا يومكم هذا لتجديد ما خلق من إيمانكم، ولتجديد العهدِ بإسلامكم، فألظُّوا بشهادة التوحيد صادقةً بها قلوبُكم، فقد روى مالك وغيره عن النبيِّ قال: ((أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي عشيَّة عرفة: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير)).
فأكثروا من هذا الدعاء، والله يوفقني وإياكم، ويغفر لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألاَّ إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
|