يقول الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق [الحج:26-29].
أيها المسلمون، في هذه الأيام الميمونة المباركة تحنّ قلوب المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وتهفو إلى الكعبة المشرفة ليؤدوا فريضة الحج، وليطوفوا بالبيت العتيق، وليشهدوا منافع لهم، كما تهفو القلوب والأرواح إلى زيارة مسجد سيدي رسول الله ؛ ليتمتعوا بجوار الحبيب في الروضة المطهرة، وليقتفوا آثار نبي الهدى والرحمة في رحلة روحية مباركة وضيافة إلهية رحمانية ميمونة، آملين القبول والمغفرة من رب العالمين.
أيها المسلمون، إن هذا البيت الحرام هو قبلة المسلمين جميعًا، وملتقى جموعهم من أقاصي الدنيا، يفدون إليه من كل فج عميق ليجدّدوا العهد بالله وفي بلد الله، وليعاهدوا الله على الإخلاص لدينهم، والتحرّر من عبودية المخلوق أيًّا كان وضعه، وعلى التعلّق به سبحانه دون سواه.
أيها المؤمنون، هذا البيت المشرف هو الرمز الخالد للحنيفيه وشعائر الدين، وهو الأثر العظيم البارز لإمام الحنفاء. وفي القيام بتأدية الشعائر الإسلامية في رحاب هذا البيت تجديد لذكرى هذه النعمة التي شرف الله بها خليله، وتخليد لمبدأ الوحدة للواحد الأحد الفرد الصمد.
ففي الطواف بالبيت واستلام أركانه معنًى من معاني التوحيد والاستسلام لربّ هذا البيت والإذعان لطاعته، وفي التجرّد من الثياب المعتادة ولباس ثياب الإحرام والكشف عن الرؤوس والتفرغ لله في موقف عرفات وفي نحر الهدي أو ذبح الأضاحي ورمي الجمار والإقامة بمنى، في كل هذه الأعمال والمناسك مظهر العبودية التامة لله الواحد القهار، وتحقيق للغرض الأسمى الذي خلق الله الخلق من أجله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أيها المسلمون، إن مكة المكرمة هي خير أرض الله، وأحبها إلى رسوله الكريم، وقد حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ولا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا.
نعم أيها المؤمنون، لقد أكرم الله المسلمين بالحج، فجعل الوقوف بعرفة تكفيرًا للذنوب لكثرة نزول الرحمة في هذا اليوم العظيم. فإذا ما وقف ضيوف الرحمن بعرفات، وضجّت الأصوات بالحاجات والدعاء، باهى الله بهم ملائكته من فوق سبع سماوات قائلا: ملائكتي وسكان سماواتي، أما ترون إلى عبادي، أتوني من كل فج عميق، شُعثًا غُبرًا، قد أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي وكرمي لأهبنّ سيئهم بمحسنهم، ولأخرجنهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ فيقولون: يا ربنا، يريدون العفو والمغفرة، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم وعفوت عنهم)).
أيها المسلمون، في جوار هذا البيت تتكوّن الصلة والعلاقة بين المسلمين، ويسود الوئام، وتتجلى الألفة والمحبة، وينسجم الجميع تحت شعار الإسلام وكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، مبتعدين عن كل لون من ألوان المبادئ الهدامة والدعاوي العنصرية. في هذا البلد يتساوى الناس حيث جعله الله تعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25].
وبالحج يكمل الدين ويتمّ، ففي حجة الوداع أنزل الله تعالى قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وحينما نزلت هذه الآية قال أهل الكتاب: لو أُنزلت علينا هذه الآية لجعلنا يومها يوم عيد، فقال عمر : (أشهد لقد أنزلت في يوم عيدين اثنين، في يوم عرفة ويوم جمعة بعد العصر على رسول الله أثناء وقوفه بعرفه). ثم استشعر صلوات الله وسلامه عليه من هذه الآية قرب أجله. إن الكمال علامة على الزوال، ثم ودّع أصحابه في خطبته بمنى وقال: ((اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج)).
أيها المسلمون، إن الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم حج مبرور))، والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم، وقال الحسن: "أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة".
قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، ويوضح ذلك قول رسولنا الأكرم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))، أي: رجع بلا ذنب. وقوله وقد سئل عن بر الحج: ((بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام وطيب الكلام)).
أيها المسلمون، ورد عن عمرو بن العاص أنه قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ((ما لك يا عمرو؟)) قلت: أشترط، قال: ((تشترط ماذا؟)) قلت: أن يغفر لي؟ قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟!)).
إن جميع وجوه البر عامل قويّ في تزكية الحج وجعله مبرورًا، ويدخل في ذلك تحرّي الكسب الحلال والبعد عن الرياء والسمعة وعن المباهاة بالأعمال وعن التعالي في مظاهر الحج عمومًا، فإن ذلك أدعى لرجاء القبول، وقد ورد في السنة أن رسول الله صلى الصبح بمنى يوم عرفة، ثم غدا إلى عرفات وتحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم، وهو يقول: ((اللهم اجعلها حجة مبرورة متقبلة، لا رياء فيها ولا سمعة)).
|