أيها المسلمون المؤمنون، إن أهم ما ينبغي التأكيد عليه هذه الأيام في خضم هذه الأحداث الرهيبة التي تحيط بأمتنا هو مسألة أسلَمة الصراع، والنظَر من زاوية واحدة لمجرَيات الأحداث، وهو أن هذه الحرب السافرة هي حرب صليبيّة جديدة لها وجهان لعملة واحدة: وجه الصهيونية اليهودية، ووجه النصرانية الإنجيلية البروتستانتية، التي تمسك بمقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وتدير الدفة فيها، فالحرب ولو اتخذت ظاهريًا أهدافًا أخرى، لكنها باطنيا حرب صليبية دينية، كحملات الصليبيين الأوائل، نعم ألم تقرؤوا قول العليم الخبير: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]، وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ٱلَّذِي جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]؟!
وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ يبين النص بأنها مقاتلة مستمرة وأنها حرب شاملة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) رواه أحمد ومسلم عن المستورد رضي الله عنه، وعن جبير بن نفير أنه سأل ذا مخبر رضي الله عنه عن الهدنة، فقال: سمعت رسول الله يقول: ((ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ـ المرج: الموضع ترعى فيه الدواب ـ ذي تُلُول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة)) رواه أبو داود.
لقد كانت أول مواجهة قتالية مع الصليبية في مؤتة في زمن النبي ، ثم عزم رسول على مواجهتهم في تبوك، ولم يُقدِّر الله تعالى قتالاً، ثم جاءت بعد ذلك الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين، فكانت معارك كبرى، منها اليرموك التي أزالت النفوذ البيزنطي من الشام كلها، وودع هرقل دمشق وداعًا لا لقاء بعده. ودخل المسلمون بيت المقدس سنة 15 هـ، وسُلّم الفاروق مفاتيحَها، وفرض الجزية، وحفظ لهم حقوقهم، والراجح عند الطبري أنها فُتحت صُلحًا [تاريخ الطبري: 2/449]. واستمرت الفتوحات الإسلامية حتى فتحت الأندلس، وأزال المسلمون حكم القوط النصارى عنها، وبلغوا وسط فرنسا وحاصروا روما.
بداية الحروب الصليبية سنة 489 هـ على يد متطوعين لتخليص القدس، وكان رأسها بطرس الناسك، وكانت بدعوى من البابا "إيربان الثاني"، وفشلت هذه، ولكن تلتها الحملة الثانية المنظمة بعد أعوام، وهذه هي التي سقطت فيها القدس سنة 493 هـ، وقد كانت تحت الحكم الفاطمي، وقادها الأمراء والإقطاعيون، و"جودفري" هو الذي حكم القدس، وقُتل فيها سبعون ألفًا، وبلغ الدم داخل المسجد حتى قوائم الخيول.
ثم جاءت حملة ثالثة تصدى لها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، القسيم ابن القسيم، انتهت هذه المرحلة بمعركة حطين 583 هـ، في عهد صلاح الدين الأيوبي.
واستمرت الحملات من سنة 1189 حتى 1270م حيث هزمهم خليل بن قلاوون المملوكي، وهزمهم من العالم الإسلامي بسقوط عكا، وفي بعض الحملات أُسِر لويس التاسع عشر ملك فرنسا على يد الظاهر بيبرس المملوكي.
وفي هذه الفترة واجه العالم الإسلامي خطر التتار، وسقوط الخلافة العباسية، باتفاق مع البابا "أنيوست".
عرفت هذه الحملات عند المؤرخين الإسلاميين كابن الجوزي وابن كثير وابن الأثير بـ(خروج الفرنجة) وعرفت عند النصارى بـ(الحج إلى الديار المقدسة) و(الحرب في خدمة المسيح) و(أعمال المسيحيين وراء البحر). بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف، والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء، وبالرغم من الضعف السائد يومئذ لَكُم أن تعجبوا أن هذه الحملة دخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، والباقي قتلهم أسود الإسلام في معارك متواصلة. ومن آثار الحروب الصليبية الأولى:
أ- المذابح العظيمة التي لحقت بالمسلمين، ففي الحملة الأولى أباد النصارى أهل أنطاكية، وذبحوا أكثر من سبعين ألفًا، وبعد أن فتحها صلاح الدين عليه رحمة الله جاء "ريتشارد" قلب الأسد ملك إنجلترا "وفيليب" ملك فرنسا و"فردريك" ملك ألمانيا لاستنقاذها، وفيها قتل قلب الأسد 2700 أسيرًا في عكا.
ب- تخريب بلاد المسلمين كحمص وحماة وعسقلان وطبرية.
ج- تشريد كثير من المسلمين من بيوتهم.
د- مهدت الحروب الصليبية الأولى لحركات الاستعباد التي سموها الاستعمار فيما بعد.
غيَّر الصليبيون استراتيجياتهم لغزو العالم الإسلامي، وهذه بدأت مع حركة الاكتشاف، والتي كانت ذات أبعاد عقدية، حيث مهّدت لما عرف بالاستعمار الأوربي، ومن أشهر هذه الرحلات رحلة "فاسكودى جاما" حيث قالوا: "الآن طوقنا رقبة العالم الإسلامي؛ فلم يبق إلا جذب الحبل فيختنق".
وحملت هذه الحملات الروح الصليبية، وتمثلت في كل من "هنري" الملاح والبابا "نيقولا" الخامس الذي أصدر مرسومًا بذلك.
وهذه المرحلة يمكن تسميتها بالهجمة الصليبية الاستعمارية الاستيطانية، وهذه هي التي قال فيها اللورد اللنبي رئيس العساكر البريطانيين أول هذا القرن العشرين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، والتي قال فيها غورو: "وها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين"، وقديمًا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "إنّ كل حروب الفرنجة مخالفة للمسيح عليه السلام الذي أمر بالتسامح، ولم تكن في ديانته قتال وجهاد, علم بهذا ضلال كل من قاتل باسم المسيح عليه السلام". وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلامًا مثله: "بأنّ شريعة موسى كانت شريعة جلال قائمة على المصادمة, وشريعة عيسى كانت شريعة جمال ليس فيها قتال، وشريعة محمد شريعة كمال، جمعت بين الجلال والجمال، كلٌ في موطنه".
والآن هل التاريخ يعيد نفسه؟! الخطاب ألقاه الزعيم الصهيونى إسرائيل "زانغويل" في 2 ديسمبر 1917، أي: بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدي الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية حقة فإن تلك الحقيقة بالذات تأتي بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة".
ألم يقل "إيجيت روستو" مستشار الرئيس الأمريكي جونسون عام 1967م: "الشيوعيون إخواننا، والأوربيون حلفاؤنا، واليهود أحبابنا، ونحن عدونا الإسلام"؟! هذا ما قاله زعيم صهيونى قبل تسعة عقود، وها هو "نكسون" يقول: "إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية". ومن بداية حرب البوسنة صرّح وزير الإعلام الصربي: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة".
وفي افتتاحية الصاندي تايمز: "آن للغرب والاتحاد السوفيتي أن يستعد لمواجهة إسفين إسلامي أصولي هائل".
وفي 9/1/1994م صرّح المستشار الألماني "هيلموت كول: "لا يسعني إلا أن أنصح الصربيين والأوروبيين بأن يستيقظوا من سباتهم، هناك خطر حدوث مواجهة مع 800 مليون مسلم في العالم".
تصريح وزير الدفاع الفرنسي عام 1994م: "إنّ الأُصولية الإسلامية تغرز خنجرها عميقا في صدر أوربا وأفريقيا".
صرح في فبراير 1995م الأمين العام للحلف في مؤتمرٍ أمنيٍّ بألمانيا: "منذ انهيار الشيوعية في أوربا الشرقية قبل خمس سنوات برز الدعاة المسلمون المتطرفون، وربما كأخطر تهديد يواجه التحالف والأمن الغربي". نُشرت في جريدة (الواشنطن بوست).
جاء في لقاء مع "صمويل هنتجتون" صاحب نظرية صراع الحضارات يوم 13/4/1997م: "ما دام الإسلام إسلامًا والغرب غربًا سيظل الصراع كما كان قائما لأربعة عشر قرنًا". فلا غرابة إذًا أن يردد زعيم الروم في هذا الزمان، وهو يصف الحرب التي ينوي خوضها ضدّ أفغانستان وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب بأنها حرب صليبية، حيث كرر هذه المقولة كثير من أقطاب حكومته، ووصفوا هذه الحرب بأوصاف مختلفة، فمرة بأنها حرب بين قوى الخير وقوى الشر، ومرة بأنها صراع الحضارات، إلى غيرها من الأوصاف التي مرت هي وغيرها من التلميحات والتصريحات للمسؤولين ووسائل الإعلام في أمريكا وغيرها ـ وللأسف مرور ـ الكرام، ولم يتناولها محللونا بالدراسة والتحليل، بل اكتفوا بإقناع أنفسهم والرأي العام المسلم بأنها مجرد زلة لسان، بدون أدنى محاولة لمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذا الكلام. فما يصدر عن رئيس أكبر دولة في العالم لا يمكن أن يكون زلة لسان، بل إنه يعني ما يقول حرفيًا، وبالذات في ظل التوجهات الأمريكية منذ عقدين من الزمان، والتي اتخذت الإسلام كعدو بديل فى استراتيجيتها الكونية، وسعت جاهدة لخلق وتضخيم الخطر الإسلامي لإقناع العالم بتوجهاتها العدائية تجاه الإسلام.
حتى وزير الدفاع "رامسفيلد" كان سبب اختياره لهذا المنصب هو أطروحة قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية، رسم فيها سيناريو الحرب بين قوى الخير والشر، والتي ستؤدي إلى معركة هرمجدون.
اللهم افضح النصارى الصليبيين وأعوانهم، اللهم أفسد مخططاتهم، اللهم انصر دينك وأولياءك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
|