أما بعد: فقد شرعنا معكم في سلسلة الكبائر منذ مدة، بدأنا بأكبر الكبائر على الإطلاق "الشرك بالله"، وثنينا بذكر كبيرة "عقوق الوالدين"، ثم شرعنا في التحدث عن ترك الصلاة، واليوم ـ إن شاء الله ـ نحدثكم عن كبيرة أخرى من كبائر الذنوب، يجب على كل مسلم اجتنابها والتنبيه على اجتنابها، ألا وهي "ترك إخراج الزكاة".
فلقد بلغ الانحطاط ببعض الناس أن عطّلوا هذا الركن الرّكين وجعلوه من الركام الدفين، ونسوا هذا الواجب الذي من أنكره فقد كفر ومن تهاون في أدائه فسق وفجر.
فلقد ذكرت فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، واجتمع ذكرها مع الصلاة في سبع وعشرين موضعًا، مما يدل على عظم قدرها وفخامة أمرها، بل جعلها الله في مواضع من كتابه من لوازم الإيمان، وجعل تركها من خصال المشركين المكذبين بيوم الدين.
حدثنا القرآن عن أهل الشقاء والخسران المبين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، كيف يصرخ أحدهم وينوح في أرض الحشر قائلاً: يٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَىٰ عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـٰنِيَهْ [الحاقة:25-29]، فينزل به حكم الواحد الأحد العدل قائلاً: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، ولماذا كان هذا العذاب والهوان والخزي على رؤوس الخلائق؟ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ [الحاقة:33، 34].
هذه الآيات المزلزلة للقلوب هي التي جعلت أبا الدرداء العابد الزاهد يقول لامرأته: (يا أم الدرداء، إن لله سلسلة لم تزل تغلي بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين).
كذلك نجد الله يقرن بين الزكاة والإيمان في قوله تعالى: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـوٰةِ فَـٰعِلُونَ [المؤمنون:1-4].
كما قرن ترك الزكاة بالشرك والتكذيب بيوم الدين فقال تعالى: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ [فصلت:6، 7]، وقال عز وجل: أَرَءيْتَ ٱلَّذِى يُكَذّبُ بِٱلدّينِ فَذَلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ [الماعون:1- 3].
فكأن المانع للزكاة لا يؤمن بالله العظيم ولا باليوم الآخر، إذ لو كان كذلك لبادر إلى امتثال أمر الله العظيم، لذلك قال فيما رواه مسلم: ((والصدقة برهان)) أي: دليل واضح على إيمان العبد، ولذلك قال تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ [التوبة:11]، فالصلاة والزكاة هما الرابط الأول بين العباد، وهما الحاقن والعاصم لدمائهم.
وكلنا يعلم أن للزكاة سببًا وشرطًا، فالسبب هو بلوغ النصاب وهو مقدار معين من المال لا يتعدى في أيامنا هذه خمسة وتسعين ألف دينار جزائري (تسعة ملايين ونصف)، ما يعادل خمسًا وثمانين غرامًا من الذهب، فهل كل من ملك هذا وجب عليه إخراج الزكاة؟ الجواب: لا، فلا بدّ من تحقيق الشرط وهو أن يحول الحول الهجري على المال، كل ذلك ليخرج المسلم ربع العشر من المال أي: 2.5، مبلغ زهيد لا يضر أحدًا إخراجه، فانظروا ـ عباد الله ـ إلى تيسير الله رب العباد، ثم انظروا إلى استكبار وعناد العباد.
وليس غرضنا اليوم أن نشرح أحكام الزكاة، إنما الغرض هو أن نذكركم بحقيقة قد يغفل عنها الكثيرون، وهي أنه متى حال الحول الهجري على النصاب صارت قيمة الزكاة حقًا للفقراء والمساكين منذ تلكم اللحظة، والذي يمتنع من إخراجها يعتبر لصًّا بل أحقر لصٍّ على الأرض، إذ كيف يسرق الغني الفقير، فأرباب الأموال الذين نسوا الواجب الذي فرضه الله المتعال يستنكرون أن تنسبهم إلى السرقة، لكنه فرّ من السرقة العلنية إلى السرقة الخفية، فالمال حق الفقير، قال تعالى: وَفِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، وقال في موضع آخر: وَٱلَّذِينَ فِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ وقال جل جلاله: وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ [الإسراء:26]، وقال في زكاة الثمار: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]. |