الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبرُ كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرة وأصيلاً.
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله، فاتقوا الله رحمَكم الله، وتأمَّلوا في الأحوال، وانظروا في العواقِب، فالسعيد من لازَم الطّاعةَ وجدَّ في المحاسبة ورفع أكُفَّ الضراعة، والعاجِزُ مَن ركِب سفينة التّسويف والتفريطِ والإضاعة، فالزَموا التقوَى والعملَ الصالح، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].
أيّها المسلمون، تقبَّل الله طاعاتِكم وصالحَ أعمالكم، وقبِل صيامَكم وقيامكم وصدقاتكم ودعاءَكم، وضاعف حسناتِكم، وجعل عيدَكم مباركًا وأيّامَكم أيامَ سعادةٍ وهناء وفضلٍ وإحسان وعمل. العيدُ المبارك لمن عمَر الله قلبَه بالهدى والتُّقى، في خُلُقٍ كريم وقلبٍ سليم، غنيٌّ محسن وفقير قانِع ومبتلًى صابِر، تعرِفهم بسيماهُم، رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، حقٌّ لأهلِ الإسلام أن يفرَحوا بعيدِهم، فلهم في هذا فرحتان: فرحةُ الفطرِ وامتثال الأمر، وفرحةُ الأملِ بُحسن الجزاء وعظيم الأجر. ومع كلِّ دواعي الفرَح وبواعِث الآمَال والاستبشار وحسنِ الظنّ بربّ العالمين غيرَ أنه لا بدَّ من كلمةٍ تقال في هذه الأيام وأحوالُ المسلمِ وأمّتِه في عيدها على ما يَرَى المبصرون ويتفكَّر المتفكِّرون.
أيّها المسلمون، لقد ازدَهَرت صناعةُ المشاريع الإصلاحيّة في أغلبِ الأقطارِ الإسلامية بسبَب الأزَمات المتتالية والابتلاءات النازِلة والأحوالِ المتقلِّبَة، وبسبب طروحاتٍ من الدّاخل والخارج، ومِن المُسلَّم به لدَى كل عاقلٍ أنّ الإصلاحَ إن لم يكُن منَ الداخلِ فهو مسخٌ للهويّة وذوبانٌ للشخصية وارتماء في أحضان الآخرين، ليس من العقلِ ولا من الأمانةِ ولا من الديانةِ أن يخطِّط مخطّطٌ أو يرسُمَ راسم منهَجًا إصلاحيًا مغفِلاً طبيعةَ أمته ومركزَها ومكانتها، بل لا يمكِن أن ينجحَ إصلاحٌ ما لم ينسجِم مع مبادئ الأمّة وثوابِتها وأصالتها.
الإصلاحُ يجب أن ينطلِقَ مِن رؤيةٍ واضحَة للحاضِر والمستقبَل وفهمٍ عميق للواقِع المتغيِّر لتنشأَ الأجيال منسجِمةً مع متطلَّبات عصرِها، متماشيةً مع المتغيِّرات، محافظةً على مقوِّمات الأمّة وقِيَمها.
يجِب الحذَر أن يكونَ هناك انفصام بين الإصلاحِ والحياة، أو انفصالٌ بين مطالبِ الحياة ومحتوَى الإصلاح. لقد أخفَقت كثيرٌ من الأجيالِ حين تعرَّضت لإصلاحاتٍ مخفِقَة فاشِلة قام بها فاشِلون أو متطِّفلون كانوا في وادٍ وطبيعةُ الأمّة وطموحَاتها ورَغَباتها وآمالها ووحدتها في وادٍ آخر، فلا على الأصيل حافَظوا، ولا مِنَ الجديد استفادوا وأنتَجوا، ملؤوا العقولَ بثقافاتٍ دخيلة، وخدَّروا الضمائرَ بأماني مضلِّلَة، وثُبِّطت العزائمُ بخَيبات أملٍ متتالِية، حتى بدأ الشّعور لدى الأجيالِ بالإحباط، وحتى صاروا يشكُّون في قُدُراتهم ومواهِبِهم، وضعُفت ثقتُهم في أنفسِهم، وولَّوا وجوهَهم شطرَ من تفوَّق عليهم وغَلَبهم وأذلَّهم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، وحتى لا يكونَ الكلامُ نقدًا مُجرَّدًا أو تَلاوُمًا غيرَ مُفيد لعلَّ مِنَ المناسِبِ الإشارةَ إلى بعض الخطوطِ الكبرَى في سبيلِ الإصلاحِ كما يرسمُها بعضُ أولي العلمِ والرأي.
إنَّ أوّلَ ما يجب التوجُّه إليه وتأكيدُ ثباته وضرورة الاستمساك به ورسوخه وترسيخه بيانُ غايةِ الإنسان في هذه الحياةِ وحقيقة وجوده، ونحن أهلَ الإسلام الصورةُ عندنا في ذلك واضحةٌ، لا لبسَ فيها ولا مساوَمَةَ عليها، وهي واضحةٌ في هذه الآيات الكريمات، قولِ الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقول الله عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وقول الله عز وجل: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] أي: طلب منكم عِمارَتها، وقول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:161، 162].
الناسُ هم الناس، والدّيار هي الدِّيار في كلِّ أصقاع الدنيا، ولكنّ سبيلَ الإصلاح والحضارة وطريق النّورِ والبناء هو وحيُ الله عزّ وجلّ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
إنّ أمّةَ الإسلام بماضيها وحاضِرها ومستقبَلها وسلَفِها وخلفها وكلِّ أجيالها قائمةٌ على الدِّين، فإذا استُبعِدَ من الإصلاحِ فلن يبقى لها شيء ولن تقوم لها قائمة، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10].
معاشِرَ المسلمين، ومِن خطوطِ الإصلاح الكبرى النظرُ في الدّيار والأوطان وحبّها والانتماء إليها والدِّفاع عنها، وهذا أمرٌ مقرَّر في ديننا بصورةٍ لا لبسَ فيها ولا غموض، وتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآياتِ في كتاب الله: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فالقِتالُ من أجلِ الدّيار هو قتالٌ في سبيل الله، وقولَه سبحانه: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، فانظر كيفَ جعَل الإخراجَ من الديار قرينَ قتلِ النفوس، بل إنّ العلاقةَ بين المسلمين وغيرِهم مرتَبِطةٌ بهذين الأمرين الأساسِيَين: الدّينِ والدّيار ، فهما محوَر تحديدِ العَلاقة سلبًا وإيجابًا، اقرؤوا ـ رحمكم الله ـ هاتين الآيَتَين وتأمّلوها: الأولى في جانب العلاقَةِ الإيجابية: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]، والآية الثانية في جانب العلاقة السَّلبية والمفاصَلة: إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ [الممتحنة:9].
الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
معاشرَ الأحِبّة، ومن خطوطِ الإصلاح الكبرى عدالةُ الحُكم وحمايَةُ الحقوق وسيادَة النظام وكَفّ الظلم ورَفع المظالم ونَزاهة القضاء؛ لأنّ ترسيخَ العَدل بنُظُمِه ومبادِئِه هو تجسيدٌ لمبادِئِ المجتمَع في الحقوق والواجباتِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، أمّا حينما تكونُ الأنظِمَة خادِمَةً لبَعضِ أصحاب المصالح والكُبَراء فهذا من أكبرِ أسبابِ الفساد والانهيارِ وهلاكِ الأمَم، وتأمَّلوا هذا الحديثَ العظيم، يقول نبيّنا محمّد : ((إنما أهلَكَ الذين كانوا قبلَكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد. وايمُ الله، لو أنّ فاطمةَ بنت محمّد سَرَقت لقطعتُ يدَها)).
إنَّ منهجَ الإصلاحِ لا يكونُ إلا في قوّةِ الحكم واستقامةِ العَدل ونزاهة القَضاء والصّرامَةِ والحَزم في إيصالِ الحقِّ لمستحِقِّه وكفِّ المتطاولين على العدالَةِ ورَدعهم وزَجرهم ومجازَاتهم، فذلك من أكبرِ الضروريَات وأَولاهَا لتحقيق الإِصلاح الحقّ وحمايةِ المجتمَع واستقرارِه في كافّةِ ديارِ الإسلام، ومن أحقُّ بهذا الحَزم من أهلِ الإسلام؟!
عبادَ الله، ومِن حقوقِ الإصلاح الكبرى الفِكرُ الحرّ والتّفكير الحرّ. إنّ العقلاءَ والحكماء يؤكِّدون على أنّه لا خوفَ من الفِكر الحرّ والتّفكير الحرّ؛ لأنّ كلَّ تفكيرٍ حرّ سوفَ يصِل إلى الحقيقة، إن لم يدرِكِ الحقَّ فهو في طريقِهِ إليه، والسّلامَةُ مكتوبَةٌ له، والنّجاة مضمونَة له، ودينُنا أعطى المجتهدَ المصيب أجرين، والمجتهدَ المخطِئ أجرًا واحدًا.
إنّ حريّةَ الفكر هي إعمالُ العقلِ المخلِص المتجرِّد في البَحثِ والنّظر واستخلاص النّتائج وفهمِ النصِّ في استكمالِ أدواتِ العِلم والمعرفة، وحينما يصِحّ التوجُّه وتصدُق النوايا ويتحقَّق التجرُّد والإخلاصُ والحِيَادِية فسوف يتِمّ التّفريقُ بين الطَّرحِ الأمينِ الناتج عن تفكيرٍ حرٍّ نزيه ولو صاحَبَه خطأ وبين الطَّرحِ الملتَبِس بالهوى والارتِزاق بالمبادِئِ والمثالِيَات بانتهازيّةٍ ووصولية.
إنّ رسوخ التفكير الحرّ والشخصية المستقِلّة يتِمّ به البناء القويُّ للفرد والمجتمع، والمسلِم يستمدّ حرّيتَه الفِكريّة من هوِيتِه المسلمة. على أنّه ينبغِي في المُطارحاتِ الفِكرية والنّقاشاتِ والحوارات أن يُدرَك أنّ كثيرًا من الخلاف بين المختَلِفين ليس خِلافًا بين حقٍّ وباطل، ولكنّه خِلاف بين حقٍّ وحقّ، وتأمّلوا كلامَ شيخِ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله حين يقول: "وكثيرٌ من أربابِ العِبادة والتصوّف يأمرون بملازَمَةِ الذّكر ويجعَلون ذلكَ هو بابَ الوصول إلى الحق، ـ قال رحمه الله: ـ وهذا حسَن، إذا ضمّوا إليه تدبُّرَ القرآن والسنّةِ واتّباعَ ذلك"، قال: "وكثيرٌ مِن أربابِ النّظَر والكلامِ يأمرون بالتّفكُّر والنّظَر ويجعَلون ذلك هوَ الطريقَ إلى معرفةِ الحقّ والنظر الصحيح، ـ قال رحمه الله: ـ فكلٌّ منَ الطّريقين فيها حقّ، لكنّه يحتاج إلى الحقّ الذي في الأخرَى، ويجب تنزيهُ كلٍّ منهما عمَّا دخَل فيهما من الباطل"، ثم إنّه رحمه الله يعلِّل هذا السلوكَ الإنسانيّ فيقول: "وسَبَب ذلك أنّ الإنسانَ فيه ظلمٌ وجهل، فإذا غلَبَه رأيٌ وخُلُق استعمَلَه في الحقِّ والباطل جميعًا".
وإذا كان الأمرُ كذلك ـ يا عبادَ الله ـ فإنّ منَ العسير أن يُرجَى الحقّ ويُطلب وتُبتَغَى الحِيادِية والمِصدَاقية النزيهَة ممن يغيِّر ولاءاتِه كما يغيِّر لباسَه، الغايةُ عنده تبرِّر الوسيلة، والمبادِئ والأخلاقُ عنده تحتَ إِمرَة السّياسة، يسير في رِكاب الأغنى والأقوَى توفيرًا للأَمنِ الوظيفِي على حسابِ دينه ومصلحة وطَنِه ومصيرِ أمّته والولاءِ لولاةِ أمرِه، كما جسَّد ذلك التنزيلُ العزيز: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]. ومن كان على هذه الشّاكِلَةِ سوف يردِّدُ ما يردِّدُه الأقوى، وسوف يتبنَّى ما يطلُبُه الغُزاة.
وبعد: أيّها المسلمون، فهذه بعضُ الرّؤَى، وهذا بعضُ التّشخيص، وتِلك بعض الأحوال، فاتَّقوا الله ربَّكم، ولْيقِف أهل العلم والرأيِ والثقافة والإعلامِ موقفَ صِدقٍ ضدَّ الهَجمَةِ الشّرِسَة على الأمّةِ في دينها ودِيَارِها ومبادئها، إنهم إن لم يفعَلوا ذلك فإنّ البلاءَ محيط والمصيبةَ كبرى، ولن تنفَعَ المواقِفُ المتأرجِحَة والرُّؤى الباهتة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء:45]، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
|