أما بعد: إن لربنا في دهرنا نفحات، تُذكرنا كلما نسينا، وتنبهنا كلما غفلنا، وتقوينا على عزائم الخير كلما ضعفنا.
ومن أعظم مواسم الخير هذا الشهر الكريم الذي فضله الله تعالى بنزول القرآن فيه، موسم المتقين، ومتجر الصالحين، والظروف طيبة، الجنة مفتحة أبوابها، والنار مغلقة أبوابها، والشياطين مقيدة، دلالة على أن أسباب الخير كثيرة متوافرة، وأسباب الشر قليلة محدودة. فيا سعادة من انتفع بهذه الفرصة.
فيا أيها المسلم، توجه إلى الله بفعل الخيرات وحسن الصيام والقيام والإكثار من الطاعات، طهر نفسك من الموبقات، من نفسك ومن لسانك وأذنيك وعينيك ويديك ورجليك، لا تمسّ حرامًا، ولا تقع في مكروه.
عباد الله، الصيام أخف العبادات، وهو عبارة عن أيام معدودات لا تزيد على تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين، عبادة سنوية لا تتكرر في العام إلا مرة، وفي نفس الوقت لا تكلف مالاً ولا سفرًا، بل إن الله جل جلاله أباح الفطر للمسافر شرعًا.
عباد الله، الصيام شرعه الله لنا لنرقى إلى أفق الملائكة، ليرتقي فينا الجانب الرباني السماوي على الجاني الأرضي الطيني.
الإنسان ليس جسمًا فقط، الإنسان جسم وروح، بل الروح هو الحقيقة، والجسم هو الغلاف، فلا يجوز له أن يعيش لجسمه وبدنه، ويغفل نفسه وروحه التي بين جنبيه.
يا خادم الجسم كم تسعـى لخدمته أتطلب الربح ممـا فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
عباد الله، كيف أصبح حالنا في رمضان؟! أصبح حالنا في رمضان أفلامًا ومسرحيات ولهوًا وطربًا ولعبًا، كأن الله أنزل رمضان وسماه "شهر الفن"، ولم يسمه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
عباد الله، هل يليق بنا في رمضان أن نسمع هذا التخنث في القول والخضوع في الأداء عندما ينطلق صوت المذياع بعد أن نتناول طعام الإفطار، بدلاً من أن يعلمونا ماذا نقول لله؟! وكيف نقضي الليل مع الله؟! تسمع صوت التلفاز وكأنه يذيع بلاغًا عسكريًا بتحرك القوات إلى المسجد الأقصى، تراه ينادي بالرقص والغناء، ما هذا التقدم؟! ما هذه التكنولوجيا الحديثة؟! أهكذا يكون رمضان يا أمة الإسلام؟! أهكذا تتسلط أجهزة الإعلام وعلى رأسها "المفسديون" العربي؟! تهدم البيوت من أصولها. لا إله إلا الله.
عباد الله، أنقضي أيامنا، أيام العبادات والتراويح، أيام القرآن الكريم، أيام الرحمن، في اللهو واللعب والطرب والسهر في الفساد؟!
عباد الله، علينا أن نتيح الفرصة لأولادنا ولزوجاتنا للذهاب إلى المساجد لحضور صلوات الفجر والعشاء والتراويح بالذات، حتى يعمّ الأجر والثواب، وحضور دروس العلم إن أمكن.
ومن هنا أتوجه إليكم ـ يا أبناء بيت المقدس ومن حولها ـ أن تعمروا المسجد الأقصى وتأتوا إليه مجتمعين ما أمكن، أي: كل مجموعة من الأصدقاء والأقرباء والجيران يأتون في سيارة واحدة نظرًا لضيق المواقف هنا، وأن تُخلى الأماكن القريبة من الإمام لأهل العلم وقراءة القرآن، وبخاصة الحفظة منهم، ونحرص كل الحرص على التعاون فيما بيننا ونواسي بعضنا بعضا، فشهر رمضان شهر التعاون والصبر، والصبر ثوابه الجنة.
عباد الله، نساء كثيرات يشكون من أزواج أو من أبناء يفطرون في نهار رمضان ومن غير سبب شرعي معتبر، أليست هذه مصيبة؟! يوجد أناس يفطرون في نهار رمضان، وصبيان المسلمين يصومون!! كم من صبيان في سن السابعة أو الثامنة يصومون رمضان، وترى الرجل الطويل العريض يفطر، تنهاه زوجته وينهاه ابنه الصغير وهو لا يزدجر ولا يعتبر، أليست هذه مصيبة؟! والواجب على المسلمين أن يقاطعوا أمثال هؤلاء، وأن نحاصرهم حصارًا أدبيًا، يجب أن يشعر الناس أن هؤلاء قد خرجوا عن صف المسلمين. وبنفس الوقت نرى العمال الذين يعملون في البناء والأعمال الشاقة يتحمّلون حر الشمس، ويظلّون صائمين، إنها عزائم المسلمين.
عباد الله، ما جزاء من تعمد إفطار يوم من رمضان بغير عذر؟ اسمعوا الجواب جيدًا، وبعد سماعه اسمحوا لأعينِكم أن تدمع، ولقلوبكم أن تخشع، لما صار إليه حال المسلمين المفطرين بغير عذر وبغير رخصة ، لا هم مرضى، ولا هم مسافرون، ولا هم عاجزون، ولا هم حوامل ولا مراضع، وإنما أفطروا لأنهم يكرهون الله، ويكرهون رسول الله.
قال رسول الله : ((من أفطر يومًا واحدًا من أيام رمضان بغير عذر ولا رخصة رخصها الله لا يجزيه صيام الدهر، ولو صام الدهر كله، ولو صام الدهر كله)).
اسمعوا أقوال أهل العلم: أجمع علماء المسلمين على أن من أفطر رمضان عمدًا كان شرًا عند الله من الزاني وشارب الخمر. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: "ذنبان لم أجد أعظم منهما بعد الشرك بالله: رجل أخر الصلاة حتى خرج وقتها، ورجل أفطر يومًا عامدًا في رمضان".
هذه أحكام الله، وأحكام الإسلام في الذين يفطرون عامدين متعمدين، فكيف صار حالنا في هذه الأيام؟!
أيها المسلم، إذا أردت أن تخرج من هذا الشهر مغفورًا لك فعليك أن تحسن الصيام وتحسن القيام، أن تصوم صوم المؤمنين المحتسبين، وتقوم قيام المؤمنين الصادقين. ليس المقصود ركعات يؤديها المسلم دون خشوع ولا اطمئنان. نريد أن يعيش المسلم مع كتاب الله تعالى، فرمضان شهر القرآن، يعيش معه قارئًا، فله بكل حرف عشر حسنات، ويعيش معه مستمعًا، وما أحلى صلاة التراويح يقضيها المسلم مع القرآن ومحبة المسلمين. نريد الصلاة الخاشعة المطمئنة، نريد أن يكون رمضان شهرًا لله تبارك وتعالى، أن يخرج المسلم من هذا الشهر وحظه كبير من المغفرة والرحمة والعتق من النار، ولله في كل ليلة عتقاء من النار.
عباد الله، الثبات الثبات على طاعة الله، كان من دعاء الرسول عليه السلام: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، ومن دعاء الراسخين في العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
أخي المسلم، اجعل لك حظًا دائمًا مع الله تعالى، ومع القرآن، مع المسجد الأقصى، مع عمل الخيرات، مع التواصل مع إخوانك ورحِمك.
تزود للـذي لا بـد منـه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
أيها الغافل عن فضيلة هذا الشهر، اعرف زمانك. يا كثير الحديث فيما يؤذي، احفظ لسانك. يا مسؤولاً عن أعماله، اعقل شأنك. يا متلوثًا بالزلل، اغسل بالتوبة ما شانك. يا مكتوبا عليه كل قبيح، تصفح ديوانك.
عباد الله، ذهب بعض الصالحين لزيارة شيخ لهم وهو مريض مرض الموت، فوجدوه يبكي، فقالوا له: لم تبكي وقد وفقك الله للصالحات؟! كم صليت، كم صمت، وكم تصدقت، وكم حججت، وكم اعتمرت، فقال لهم: وما يدريني أن شيئًا من هذا قد قُبِل والله تبارك وتعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟! وما يدريني أني منهم؟!
ولهذا عليك أن تفرح إذا وفّقت للطاعة، ولا تعجب بنفسك، كن خائفًا، كن على حذر من مكر الله، كما قال خليفة المسلمين أبو بكر الصديق: (والله، لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليّ في الجنة).
فالمؤمن دائمًا يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه، هو دائمًا بين الخوف والرجاء مهما قدم من عمل، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].
عباد الله، نحن الآن في زمان تكاثرت فيه المصائب من كل جانب، وتداعت الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، يختلف أولئك فيما بينهم، ويتفقون علينا نحن المسلمين. ألم تسمع قول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]؟!
لا ينجينا ـ أيها المسلمون ـ مما نحن فيه إلا رجعة صادقة إلى الله تبارك وتعالى، إلا أن نقرع باب الله قرع التائبين المنيبين الراجعين الخائفين، وهذا أوان الرجعة، هذا هو موسم التوبة والإنابة، فلنقل جميعًا في أنفسنا ما قاله أبونا آدم عليه السلام وأُمنا حواء عليها السلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
ما أحوجنا أن نعود إلى الله، وتذكّروا ـ يا عباد الله ـ أن للصائم دعوة لا ترد عند فطره، فقد ورد في الحديث الشريف: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر ـ وفي رواية: حين يفطر ـ، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)).
ما أحوجنا ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس وتهيأنا للإفطار أن نمد أيدينا إلى الله داعين لأنفسنا وأهلينا والمسلمين في كل مكان بالمغفرة والرحمة، وللمضطهدين والمعذبين والمجاهدين بالفتح والنصر والنجاة.
تقول: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى.
|