أما بعد: أيها المسلمون، ولا يزال أعداء الملة من اليهود والدول الصليبيّة يخططون بعد كل فترة لضرب الإسلام في أحدِ الأماكن واحتلال أرضه وإذلال أهله، وها هو العالم الإسلامي يعيش هذه الأيام مشكلة دارفور السودانية.
هذا القطر المترامي الأطراف، الغنيّ بالثروات، والذي يحتلّ موقعًا متميزًا يربط شرق القارة الإفريقية بغربها، وشمالها بجنوبها، كما أنه يمكن أن يلعب دورًا بارزًا في نشر الإسلام، إذ إن جميع الدول التي تحيط به من ناحية الجنوب والشرق دول يحكمها نصارى يرتبطون بوضوحٍ بالمصالح الصليبية الغربية، وهذا هو مفتاح فهمِ مسار الأحداث واتجاهاتها في السودان.
يقع إقليم دارفور في أقصى غرب السودان الذي يمثّل نحو خُمس مساحة السودان، ويبلغ عدد سكان دارفور ما يقارب 6 ملايين نسمة. وكانت دارفور في السابق مملكة إسلامية مستقلّة تَعاقب على حكمها عدد من السلاطين، كان آخرهم السلطان علي دينار، وكان للإقليم عُملته الخاصة وعلَمُه، وجميع سكان دارفور مسلمون، وقد انضمّت إلى السودان عام 1916م.
أيها المسلمون، لماذا الهجوم على السودان؟ ولماذا جاءت هذه المشكلة الآن؟ إنّ هناك أكثر من سبب يجعل السودان في مقدمة أجندة كثير من القوى العالمية ومطمع للصهيونية والصليبية، منها:
أولاً: الدور الإسلامي للسودان في شتى المحافل الدولية ومحاولة تطبيقه للشريعة الإسلامية ولو بشكل مبسّط وفي حدود ضيّقة، وخاصة دوره الواضح في تأييد المقاومة في فلسطين والعراق، ورفضه للإملاءات الأمريكية لتغيير الثوابت الإسلامية.
ثانيًا: أن السودان تجاوِر تسع دول إفريقية متعددة الأزَمَات والديانات واللغات، وأمن كل هذه الأنظمة مرتبط بصورة أو بأخرى بأمن السودان، فمعظم قبائل السودان الحدوديّة في الشمال والشرق والغرب والجنوب هي قبائل مشتركة، نصفها في السودان ونصفها الآخر في الدولة المجاورة.
ثالثًا: السودان به ثروة من المعادن وأهمها البترول لم تستغلّ حتى الآن، وهناك صراع دائر بين شركات الدول الكبرى حول استغلال تلك الثروة، ولا يفوتنا المشهد السينمائي الأمريكي نحو الاندفاع حول وزارة البترول في العراق واحتلال الآبار هناك بمجرّد احتلالهم للبلاد. هل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن احتياطي السودان من النفط يقدَّر بحوالي 2 مليار برميل؟! ومن المتوقع زيادتها إلى 4 مليارات عام 2010م، كل هذا يجعل شهية الولايات المتحدة مفتوحة لالتهام هذا المنجَم المفتوح. ويزيد في ذلك تأكيد وجود اليورانيوم في دارفور مما يعطي أهمية خطيرة لهذا الإقليم، فضلا عن أنّ السودان دولة بمساحة مليون ميل مربّع، صالحة للزراعة والصناعة، ويرقد على مواد هائلة من المياه الجوفية والمعادن والنفط والثروات وتجري تحته الأنهار.
رابعًا: أن بريطانيا تنظر على الدوام للسودان على أنّه مستعمرة تاريخيّة، ويجب أن تظلّ هذه الفريسة الإفريقية تحت مجهر التاج البريطاني، كما تنظر فرنسا إلى السودان كدولة مهمة تجاور الشريط الفرنسي الإفريقي والذي له أكثر من باب يفتح على السودان، ولا بدّ أن تؤمّنَ هذه الأبواب جميعها. ثم يأتي دور الولايات المتحدة أَسَدُ هذه الغابة الكبيرة في ظلّ انعدام التوازن العالمي، وهذا الأسد في عالمه الجديد يرى أنّ كل الصيد في الغابة العالمية هو ملكه، ولا يذهب شيء إلى أحد ولو كانت عشيقته بريطانيا إلا بعد إذنه وعلمه.
خامسًا: إسرائيل والصهيونيّة التي تريد عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي، فللصّهاينة دور واضح في حرب الجنوب في محاولةٍ لخلق دولة منفصلة معادِية للعرب على مجرى النيل ولا تربطها روابط بمصر، بهدف السيطرة على المياه، وليُّ ذراع كل من مصر والسودان. وقد سبق للكيان الصّهيونيّ تقديم مساعدات للحركة الشعبيّة لدى انفجار التمرّد.
سادسًا: أن الطغيان الأمريكي دائمًا يستهدف الدول الضعيفة بسبب ضعف الموارد كأفغانستان، والاستنـزاف في الحروب كالعراق، وتأتي السودان فرصة مع قرب الانتخابات الأمريكية كهدف استراتيجي ضعيف وسهل؛ لأن المتتبّع لمجريات أحداث العراق يدرك أن المشروع الأمريكي للتغيير في المنطقة متعثّر في العراق بسبب صمود المقاومة العراقية وتسديدها لضربات قاصمة للوجود الأمريكي ومشاريعه للسيطرة على العراق، وبات النظام في وضع قلق على مشروعه الأساسي في المنطقة، ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية أصبحت الحكومة في وضع حرج: إما التسليم بإخفاق مشروعها للتغيير، وهذا يعني هزيمتها، أو محاولة ترميم وضعها في العراق بقدر الإمكان، وفي نفس الوقت الانتقال خطوة أخرى نحو تطبيق مشروعها للمنطقة والبدء بالحلقة الأضعف وهي السودان، فأوجدت الولايات المتحدة مشكِلة دارفور.
سابعًا: موقع السودان الإستراتيجي على البحر الأحمر وجنوب مصر وفى حوض النيل وقلب إفريقيا، كل هذا يجعله فاتحًا لشهيّة سعار الذئب الأمريكي ليفترس عظام السودان الطيّب المكافح في ظلّ حالة من السلبية أو الخوف عربيًا وإسلاميًا.
لهذا ولغيره أوجدت الصليبية هذه المشكلة محاولِة تغطيتها بغطاء هيئة الأمم المتحدة.
أيها المسلمون، وبينما العالم مشغول بمتابعة أخبار العراق وممارسات الاحتلال الأمريكي والمقاومة، وكذلك أخبار ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين فجأة سلّطت الأضواء الأمريكيّة والبريطانيّة على دارفور، وكأنّ المشاعر المرهفة والأخلاق الإنسانيّة استيقظت فجأة لتبصر مشكلة دارفور والصراع العرقي المزعوم بين القبائل العربيّة والقبائل الإفريقيّة، وتجمعت سحب سوداء في الأجواء منذِرة باحتلال دارفور، وكأن الآلة الإعلاميّة المدعّمة بالطغيان الأمريكي تريد أن تسحب التركيز العالمي والعربي من مصائب الاحتلال في العراق إلى دارفور حيث تعلو نبرة إنسانية تمثيليّة أمريكيّة.
وإذا كان التدخل الغربي والأمريكي مقبولا فيما يتعلق بالوضع في جنوب السودان بدعوى أن هناك صراعا بين مسلمين ومسيحيين، استنادًا إلى الإحصاءات التي تشير إلى أن نسبة المسلمين في الجنوب 18 في المائة ونسبة المسيحيين 17 في المائة وباقي السكان وثنيون، فهو ليس مقبولا في دارفور؛ لأن كل القبائل هناك مسلمة سواء العربية أو الإفريقية بنسبة 99 في المائة، وليس هناك معنى لتدخّل الاتحاد الأوربي بدعوى وجود تطهير عرقي أو ديني.
ولو أن الاستنفار العالمي حاصل لنصرة وإغاثة كلّ المضطهدين والمسحوقين من ضحايا الصراعات في أنحاء العالم لما كان هناك مبرّر للشك أو القلق، ولكن أَنْ تتعدّد الصراعات في أماكن شتى ويتساقط في ثناياها ومن جرّائها مئات بل ألوف الضحايا الذين هم في أمس الحاجة إلى العودة والإغاثة والحماية ثم يتمّ تجاهل ذلك كله ويجري التركيز على دارفور بوجه أخصّ، فإن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام وتعجّب، من ثم فليس السؤال هو: لماذا الاستنفار العالمي من أجل دارفور؟ بقدر ما أنه لماذا الاستنفار لأجل دارفور وإهمال غيرها؟! لهذا فلسنا ندعو إلى تقليل الاهتمام بالحاصل هناك، ولكننا ندعو إلى توجيه اهتمام مماثل لملفّات وقضايا مماثلة، إن لم تكن أشد تعقيدًا وأكثر جسامة من قضية دارفور.
إن أحدًا لم يهتمّ مثلا بالتقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية عن أوضاع مسلمي الصين، والذي كشف النقاب عن أجواءِ القمع القاسية التي يتعرّض لها أكثر من عشرة ملايين مسلم في تركستان الشرقية. تقرير من هذا القبيل لم يُحدث أيّ صدى حتى في وسائل الإعلام، في حين كان المسؤولون الدوليون يركضون نحو دارفور، في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة ووزيرا خارجيتي الولايات المتحدة وألمانيا.
مأساة مسلمي الصين تعدّ أمرًا بسيطًا إذا قورِنت بالحاصل في فلسطين أو في بلاد الشيشان، في تلك الأجواء أيضًا واصلت إسرائيل افتراسها للفلسطينيين، من خلال الاجتياحات والاغتيالات وعمليات التدمير ونهب الأراضي التي شملت قطاع غزة ونابلس وغيرها من مدن الضفة، وقبل ذلك تابع العالم التقارير البشعة التي نشرت عن ممارسات الجنود الروس في الشيشان وجارتها أنقوشيا. هذه الممارسات قوبلت بالصمت المشهود أو بتحرّكات سياسية اتجهت صوبَ مناصرة القَتَلة وليس الضحايا كما في الحالة الفلسطينية.
الفيضانات الهائلة التي اجتاحت بنجلادش مؤخّرًا وشرّدت أكثرَ من عشرين مليونًا من الفقراء والعجزة والأطفال، لماذا لم يلتفت لهم العالم؟! التمييز العنصري والتصفية الدينية التي يمارسها الهندوس تجاه المسلمين المستضعفين في الهند أو في كشمير، ماذا كان تعليق الغرب عليها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة؟! قالوا: إنها قضية داخلية لا علاقةَ للغرب بها. التهجير والإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب أراكان من الحكومة البورمية لماذا لم تقلق الدول الكبرى؟! الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في الشيشان وجنوب الفلبين وأوزبكستان وأرتريا، كل ذلك لا علاقة للغرب به، فهم على حدّ زعمهم يحترمون سيادة الدول وقضاياها الداخلية. أما دارفور فتتصاعد فيها الأحداث بصورة مذهلة جدًا، ويتواطأ الغربيون للضغط وإصدار القرارات والتهديد بالمحاصرة، بل بالتدخّل العسكري، فما الذي يجري إذًا؟! وما هذا التناقض والكيل بمكيالين؟!
لقد استأثرت دارفور بالاهتمام الدولي والإقليمي، الأمر الذي يؤكّد الشك في براءة ذلك الاهتمام، ويوحي بأنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأن في دوافعهم أشياء أخرى غير الاعتبارات الإنسانية.
تتعمّد واشنطن توصيف أزمة دارفور على أنّها حرب إبادة بين العرب والأفارقة في السّودان، تديرها مليشيات الجنجويد العربيّة بدعم من حكومة السودان، وتنطوي على التّطهير العرقيّ والتّهجير والتّعريب وغير ذلك من التّهم الباطلة. والإدارة الأمريكيّة تفعل ذلك بخبث لكي تعقّد الأمور، ولكي تتاح لها الفرصة في التدخّل والاصطياد في الماء العكِر.
إنّ المشكلة في دارفور هي والحمد لله بين طرفين مسلمين، وليس بينهما طرف مسيحي أو وثني، وإلا لكانت الأمور أكثر تعقيدًا. والنـزاع الحالي في دارفور طبيعيّ، وهو ليس تطهيرًا عرقيًّا كما تصفه الإدارة الأمريكية، فالأمر لا يعدو نزاعًا بين القبائل الرعويّة الرحّل والقبائل الزراعيّة المستوطنة والتي قد تحصل في أيّ مكان وفي أيّة دولة، هذه هي كل المشكلة. لكنه المخطّط الأمريكيّ الذي يتضمّن تخويف أبناء دارفور من الحكومة السودانيّة من أجل البدء في تنفيذ مخطّط تفتيت السودان بدءًا بإقامة دولة مستقلّة تضمّ قبائلها كبيرة العدد والمنتشرة على جانبي الحدود السودانيّة التشادية، وتكون عاصمتها دارفور، على أنْ ترتبط بالولايات المتّحدة، فتصبح قاعدة إستراتيجيّة لها في هذا الموقع بغرب السودان مجاورًا لليبيا وتشاد ودول شرق إفريقيا التي ترتبط تقليديًّا بفرنسا، هذا هو الهدف.
ولأجل عدم تكرار أخطاء العراق فقد حرصت الإدارة الأمريكية على استصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل في دارفور، منحازًا من خلال دعوته حكومة السودان إلى جمع أسلحة الجنجويد فقط دون ذكر الميليشيات الأخرى؛ ليساعد ذلك على تقسيم البلاد. وهذه المفارقة تذكّرنا فيما حدث بالبوسنة في عهد بطرس غالي عندما منعَ السلاح عن المسلمين فقط، وهو شرط لا يقبله عاقل إطلاقًا، فأبسط مبادئ العدل نزع السلاح من جميع أطراف الصراع، هذا فضلا عن شروط أخرى أقلّ ما توصف بأنها شروط طرف يشعر بالانتصار والحماية الدولية.
أيها المسلمون، لقد وضح بجلاء السياسة الغربية تجاه جميع الدول الإسلامية وهي سياسة التقسيم ومحاولة إثارة النّعَرات لأجل أن تقبل عدد من الطوائف وتطالب بالتقسيم، وهي إستراتيجيّة أمريكا والغرب بعد الحرب الباردة، وتريد أنْ تطبّقه على العالم الإسلاميّ بأسره، ففي دول الخليج والعراق الصّراع والتقسيم يكون على أساس طائفيّ: سنة وشيعة، وفي مصر يكون التقسيم على أساس دينيّ بين المسلمين والأقباط، وفي الجزائر والمغرب على أساس لغويّ بين العرب والبربر، وفي ماليزيا وأندونيسيا على أساس عرقيّ ودينيّ بين المسلمين والهندوس والبوذيين، وهكذا. هذا مخطط مدروس وقديم، لكن هل يتمكنون من تطبيقه وتنفيذه؟! هنا يأتي دور الشعوب المسلمة ودوَلها وأن تكون على حذر من ذلك، وأن تحاول بكل ما تملك أن تفسد هذا المخطط الصليبي اليهودي الماكر.
والدور الآن أتى على السودان، تلك الدولة العربية المسلمة والتي قد ابتليت بمصائب شتى، كان أهمها حركة التمرّد الصليبي المدعومة من إسرائيل في جنوب السودان، والتي ظلّت حكومة السودان تقاوِمها سنوات طويلة، مما عطّل وأجهض كثيرًا من مشاريع التنمية واستنـزف كثيرًا من موارد الدخل، وبعد أنْ كانت السودان كما تؤكّد الدراسات أنّها سلّة غذاء إفريقيا أو العالم العربي أضحت سلّة حركات التمرد والصراعات الحزبية المقيتة مما زاد ذلك من تدهور أحوالها.
وجاءت مشكلة دارفور العرقيّة وما خلّفته من أوضاع متردّية إنسانية لتزيد من كمّ مصائب السودان التي أُجبرت على التفاوض بطريقة مهينة مع حركة التمرّد في الجنوب، وقبلت شروطًا وإملاءات تؤدي إلى تقسيم السودان والقبول بالأمر الواقع بكل ما فيه من تواجد صهيوني أمريكي في جنوب السودان.
وكان السودانيون يأملون أن تكون اتفاقيّات الجنوب نهاية للضغوط التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولكن هيهات، فإنّ الاستعمار بكل أساليبه القديمة وأشكاله الكئيبة عاد يطلّ على السودان في القرن الحادي والعشرين.
السؤال: أين ذهبت الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي؟! لا وجودَ لهما. لماذا هذا الصمت والسلبية؟! هل ننتظر أن يأتي الدور على دولة أخرى قريبة؟! وربما نكون نحن في القائمة الأمريكية أيضًا.
نسأل الله جل وتعالى أن يحفظ بلاد المسلمين، وأن يدمّر أعداء الدين، وأن يجعل كيدهم في نحورهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|