أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لا تقدِر أيّ قوةٍ في الأرض أن تجمَع الحجَّاج كلَّ عامٍ من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصنافِ الناس، يأتون بقلوبٍ مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذَّذون بالمشقَّات في الأسفار، ويفرَحونَ بمفارقةِ الأهلِ والأصحابِ والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحجّ أسعدُ ساعات العمر، ويعظِّمون مشاعرَ الحجّ، وينفقون الأموال للحج بسخاوة نفس وطيبة قلب، ولا يقدر على ذلك إلا من خلق النفس البشرية وأوجدها وهو ربنا سبحانه وتعالى، وهو القائلُ لخليله إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ [الحج:27، 28]، فالحجُّ آية من آيات الله العظمَى على أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقّ.
ذكر المفسرون ابنُ جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس أنَّ الله لما أمرَ خليلَه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أن يؤذِّن في الناس بالحج قال: يا ربّ، كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إن الجبالَ تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابَه كلُّ شيء سمعه من حجر ومدرٍ وشجر، ومن كتب الله أنه يحجَّ إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون، إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع شعيرة الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب، وما تشمله من معاني العقيدة ومسائل أصول الدين.
تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله جلّ وعلا الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [الحج:26].
إنّ التوحيد الخالصَ هو عماد خلافةِ الإنسان في الأرض، وهو أفضلُ ما يُطلب وأجلُّ ما يُرغب وأشرفُ ما يُنسَب، لا يُشيَّد الملك العتيدُ إلا على دعائم التوحيد، ولا يزول ويتلاشى إلا بفقده، وما عزّت دولةُ الإسلام إلا بانتشاره، ولا ذلَّت واستكانت إلا باندثاره.
إنّه التوحيد الخالصُ الذي يأرِز بالناس إلى بِرّ الأمان والوقايةِ من زوابع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته والإلحاد في أسمائه وصفاته. إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه. إنّه التوحيدُ الذي يغمر قلوبَ المسلمين باليقين الخالص، والذي شُرع الحج لأجله حيث يقول الباري سبحانه: فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30، 31].
نعم إخوة الإسلام، إن شعيرة الحج قائمةٌ في أساسها على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده والكفر بالطاغوت شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص والكافرون كما كان يفعل الرسول ، ومن أجل تحقيق التوحيد شرع التهليل للحاج عند صعود الصفا والمروة، فيستحب للحاج والمعتمر أن يستقبلَ القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمدَ الله ويكبرَه ويقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ومن أجل تحقيق التوحيد أيضًا كان خير الدعاء يوم عرفة أن يقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله سبحانه بالدعاء والسؤال والطلب والرغبة إليه والاعتماد عليه والاستغناء به عن الناس والتعفف عن سؤالهم والافتقار إليهم؛ فالدعاء مشروع في الطوافوالسعي وأثناء الوقوف بعرفة وعند المشعر الحرام وفي مزدلفة، كما يشرع الدعاء وإطالته بعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق، شرع الدعاء في هذه المواقف الستة لتعليق القلوب بالله وإفراده بالعبادة والدعاء والالتجاء.
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج فكم فيها من التربية على التسليم والانقياد لشرع الله تعالى، وكم في الأمة من أناس لا يرضَون بالانقياد لشرع الله في أمور حياتهم، ولكنهم يسلّمون في الحج ويخضعون، ولن يحصل لهم إيمان إلا بالرّضا بحكم الله والتسليم له تسليمًا، والحج خير مثالٍ لتحقيق هذا التسليم، فإنّ تنقّلَ الحجاج بين المشاعر وطوافَهم حول البيت العتيق وتقبيلَهم للحجر الأسود ورميَ الجمار وغيرَه كثير، كلّ ذلك أمثلةٌ حيّة لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله تعالى وقبولِ حكم الله عز وجل بكل انشراح صدر وطمأنينة قلب، ولا يتم حجك إلا بفعل هذه الشعائر، ولو انتقيت منها فحجّك مردود عليك. وكذلك دين الإسلام كلُّه يجب الانقياد له، ولا يجوز الانتقاء منه، فدين الإسلام يحكم على المسجد وخارجه، على العبادة والسياسة، على الرجل والمرأة، ولا يجوز الانتقاء، يقول تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208] أي: ادخلوا في جميع شرائع الدين، ولا تتركوا منها شيئًا. وفي الحجّ بخصوصه دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقالا: رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ [البقرة:128]، فلقد دعوا لنفسيهما وذريتهما بالإسلام الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه، وذلك يتضمّن انقياد الجوارح، ورضِي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) رواه البخاري، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه".
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج تعلّمنا تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته، يقول تعالى بعد أن ذكر أحكامًا عن الحج: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:30]، والحرمات المقصودة ها هنا أعمال الحجّ المشار إليها في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ [الحج:29]، وقال سبحانه: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج:32]، فتعظيم مناسك الحج عمومًا من تقوى القلوب، وتعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها، يقول ابن القيم رحمه الله: "وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلّى أحدهما عن الآخر فسدت"، وفي الحديث قال : ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة ـ يعني: الكعبة ـ حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا)) أخرجه ابن ماجه وحسنه الحافظ ابن حجر.
معاشر المسلمين، ووقفة أخرى مع شعيرة الحج ترسخ عندنا الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين، وكم هو محزن حقًا تفرّق المسلمين شيعًا وأحزابًا وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة، وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة، وإن فريضة الحجّ أعظمُ علاج لهذا التفرّق والتشرذم، فالحج يجمع الّشمل وينمّي الولاء والحبّ والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقّي الكتاب والسنة وقبلتُهم واحدة فهم في الحج يزدادون صلة واقترابًا، حيث يجمعهم لباس واحد ومكان واحد وزمان واحد ويؤدون جميعًا مناسك واحدة. كما أن في الحج أنواعًا من صور الولاء للمؤمنين؛ حيث الحجُ مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق وبذل المعروف أيًا كان، سواء أكان تعليم جاهل أو هداية تائه أو إطعام جائع أو إرواء غليل أو مساعدة ملهوف.
وفي المقابل ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم، يقول ابن القيم في تهذيب السنن: "استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك" ا.هـ. لقد لبى النبيّ بالتوحيد خلافًا للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفًا لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفًا أهلَ الشرك الذين يدفعون قبل غروبها، ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام ـ أي: مزدلفة ـ بعد طلوع الشمس خالفهم الرسول فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأبطل عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: ((كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع))؛ يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات مثل دعواهم: يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم" ا.هـ.
معاشر المسلمين، ووقفة أخيرة مع شعيرة الحج تذكر الحاج وغيره ممن يشاهده في وسائل الإعلام تذكِّره بيوم الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة وأهوالها، فعلى الحاجّ إذا فارق وطنه وتحمّل عناء الرحيل بالسفر إلى تلك المشاعر أن يتذكّر يوم الرحيل عن الدنيا، وإذا لبس المحرِم ملابس الإحرام وتعبد لله بلباس تلك اللفائف فعليه أن يتذكر أنه سيوسَّد التراب بمثلها، وأنه سيلقى ربه على زيّ مخالف لزيّ أهل الدنيا، وإذا وقف بعرفة ورأى من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم فليتذكر موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه كان غفارا.
|