معاشر المسلمين، الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها وتهلك أهلها وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس وتستشري شروره ثم يركن الناس إلى الطغاة ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم يعمّهم الله بالعذاب ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة أنفسهم.
ولقد كان فرعون مثلاً صارخًا للطاغية المتجبر، وكان قومه صورة للأقوام التي خضعت وتابعت الطاغية، ووصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى أهلكه الله وقومه.
ووردت قصة فرعون في سبع وعشرين سورة، فضلاً عن الإشارة إليها في ثنايا بعض السور الأخرى وعرضتها الآيات مفصلة ومقتضبة، وعرضت صورًا لطغيان فرعون وضلالاته وبغيه وكفره.
وأمرُ فرعون مَثلٌ لكلّ طاغية يتجاوز الحدّ في الظلم والتجبّر والاستبداد والمعصية والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم، وكلما أنس منهم السكوت على ظلمه والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلَفًا وتجبرًا وتمردًا، حتى يصل إلى التألُّه وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله.
ولكي نبين ملامح الطغاة التي لا تتغير في مضمونها ونتذكر بعض صور طغيانهم ووسائلهم والتي تتشابه في مآلاتها نستعرض اليوم عددًا من الأمور التي نستخلصها من الآيات الكريمة التي وردت في معرض الحديث عن فرعون وقومه، ذلك الطاغية الذي تجاوز الحد في الكفر والتأله والتجبر على عباد الله لأجل مصالحه الشخصية كما يفعل الطغاة في كل زمان.
لقد أراد الله لفرعون أن يكون درسًا بليغًا للطغاة، فأبقى بدنه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وعدَّد الأساليب في عرض قصته، وسنَّ رسول الله صيام اليوم الذي هلك فيه ونجّى موسى عليه السلام لتغتبط الأمة بنجاة المؤمنين وتتشفّى بهلاك الكافرين، ولكي تتذكّر الأمم المستضعَفَة في كلّ زمان أن مصير الطغاة واحد، وأن عاقبتهم مخزية، وأن الله يمهل لهم وقتًا ثم يأخذهم أخذًا ويصرعهم صرعًا، ليكون حال هلاكهم مناقضًا لحال حياتهم، إنها نهاية شافية كافية للمستضعفين، يوم أن يلقي الله فرعونَ جثةً هامدة على شاطئ البحر مع أوساخه ونفاياته، قد امتلأ بطنه من نفاياته، وانسدّ فمه من وحله، بعد أن كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء، بعد أن كان يقول: أنا ربكم الأعلى، بعد أن كان يقول: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
أيّها المسلمون، إن الطغيان ليس قصة ماضية ولكنه حقيقة باقية، والوقوف عند قصص طغاة الأمس يعطي معالم لطغيان اليوم ويفيد في دراسة الصور المشابهة في كلّ عصر ومصر مهما اختلفت الألوان وتغيرت العناوين والشعارات؛ وذلك لأن الله جل وعلا لم يقصَّ على عباده المؤمنين إلا لكي يتّعظوا ويعتبروا ويتدبّروا أمرهم فلا يقعوا فيما وقع فيه الأقوام، وحتى لا ينالهم من الله العذاب: كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ اتَيْنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وِزْرًا [طه:99، 100]، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ٱلألْبَـٰبِ [يوسف:111].
أيها المسلمون، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية، تتضح معالم المنهج الفرعوني في الطغيان وهي كثيرة ومتعددة من أهمها:
أنه يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل ويجعلُ من نفسه معبودًا من دون الله عز وجل يتحكم في الناس، ويأمرهم أن يطيعوه، ويشرع لهم ما يراه متّفقًا مع أهوائه ومصلحته، ويدعي أنه الخير لهم والبركة عليهم، وأنه يريد لهم الصلاح وغيره يريد الفساد، وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأرْضِ ٱلْفَسَادَ [غافر:26]، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ فَٱجْعَل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ [القصص:38].
فرعون الطاغية أتى إلى قومه بصورة الناصح المشفق عليهم من تبديل دينهم وإظهار الفساد عليهم، وطريقته في علاج هذه المشكلة طريقة رائعة، ولا يدرك روعتها إلا الطغاة من أمثاله، وهي أن يقتل موسى، وأن يقتل أبناء الذين آمنوا معه ويستحيي نساءهم، إنها طريقة تدلّ على صدقٍ معهم وإخلاص لهم وشفقة عليهم، إنها الطريقة التي سار عليها تلاميذ مدرسة الطغاة من بعده، نريد أن نحرّركم من الظلم ونخرجكم إلى عالم من الحرية لم تكونوا تحلمون به، وطريقتنا في ذلك هي أن نأتي بمئات الآلاف من الجنود وبأطنان الأسلحة وأنواع العتاد ثم نقصفكم حتى الموت، ونملأ بلادكم بالأمراض والأسقام، ونجرّب عليكم أنواع الأسلحة الجديدة، وهذا شرفٌ لكم أن جرّبنا عليكم أسلِحة جديدة، أو طريقة أخرى هي أن تهربوا لدولٍ مجاورة لتعيشوا حياةً كريمة مغترِبين في خيام اللاجئين ومنّةِ المتبرّعين.
أيها المسلمون، ومن أبرز معالم الطاغية أنه يفتخِر بما يملك من مال أو قوة أو مُلك أو تقدُّم مادي، وينسى مصدر ذلك كله، وينسبها لنفسه معتمدًا على حبّ الناس لمتاع الدنيا، ولذلك افتخر فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء ولديه الماء والأنهار والسلطان: وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، وهذا الادّعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك والمال والقوة والنعيم والحاشية والأتباع، ولكن ذلك مقترن أيضًا بخضوع الناس للطاغية وسكوتهم عن مظالمه وخوفهم من سطوته وجبروته وانكبابهم على الأمور المادية والمنافع الدنيوية ونسيانهم لآخرتهم، مما يجعلهم مستعبَدين للظالم وأتباعًا للطاغية كما فعل أتباع فرعون وقومه.
وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله وأنّ دعوة موسى عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم ويسدّ عليهم طريق الهدى فقال: فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]، والناس المضلَّلون الذين استعبَدهم الطغاة وأذلّوهم حتى أفسدوا فِطَرَهم يستجيبون لمثل هذه المغريات ويذعنون لحواسهم القاصرة وينكرون ما لا تصِل إليه حواسهم ويعطلون عقولهم.
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة ثالثًا أنهم ينكرون الغيبيات ويعادونها؛ لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون؛ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ فَٱجْعَل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ [القصص:38].
يخاف الطغاة من إيمان الناس بالغيب؛ لأنه يحرّرهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسحُ أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل، فيعرفون أن هناك مالِكًا قديرًا، وأن هؤلاء الطغاة بشر مخلوقون مثلهم انحرفوا عن شرع الله وتجبروا وظلموا، وأنهم سوف يمضون بعد حين ليواجِهوا مصير العذاب؛ لأن الله وحده يملك المصير ويملك الموت والحياة، إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلـٰدُهُم مّنَ ٱللَّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَـٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [آل عمران:10، 11].
ومن معالم الطغاة التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة وأولياء الله عز وجل والتنكيل بهم ورميهم بشتى التهم والأباطيل حتى ولو كانت الدعوة قد جاءتهم بالوسيلة الليِّنة والخطاب الشفوق؛ لأن المتجبر لا يصغي لغير نفسه، ولا يفهم في لغة الحوار إلا حبال المشانق وسياط الجلادين.
ها هو موسى و هارون عليهما السلام يخاطبان فرعون بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر وأرعد وأزبد وقال: لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهًَا غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، ولكن موسى لم يَخَفْ هذا التهديد، بل قدَّم لفرعون الآية تلوَ الآية لعله يخشى ويعود إلى الحق، فَأَلْقَىٰ عَصَـٰهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء لِلنَّـٰظِرِينَ [الشعراء:32، 33]، وظلت الآيات تترى واحدة إثر أخرى والطاغية لا يستمع ولا يرعوي حتى أهلكه الله وقومه الظالمين، ونجَّى موسى وقومه المؤمنين.
وظلت هذه العنجهية هي لغة الطغاة في الحوار والجدال، وطغاة اليوم في هذا كطغاة الأمس، لم يفارقوا هذه اللغة المحبّبة إليهم في الحوار، فلا مجال عندهم للجدال بالحسنى، وإنما على متنِ المقاتلات ورؤوس المدرَّعات، وما قالوه هو الصحيح لأنه قولهم، وليس لأنه صحيح، مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ [غافر:29].
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة أنهم يلجؤون إلى التنكيل الظالم بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله، ولا يمنعهم شيء من ارتكاب كلّ جريمة مهما بدت منافية للخلق والمنطق، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَقَـشرُونَ فَقَالُواْ سَـٰحِرٌ كَـذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِٱلْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ ٱقْتُلُواْ أَبْنَاء ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَاءهُمْ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ [غافر:23، 25].
أيها المسلمون، ولكل طاغية أعوان، منهم من يعين بالرأي للتضليل والإفساد وتزيين الباطل للناس وإنفاذ رغبات الطاغية مثل هامان، ومنهم من يعين بالمال كقارون، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـٰطِئِينَ [القصص:8]، ومع هذا الوزير الطاغية أيضًا حشدٌ من الجنود والأعوان والأتباع التي تنكّل بالناس وترصد حركاتهم وتبطش بهم وتتعالى على الناس بما لديها من قوة وسلاح وسلطان، وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ [القصص:39]، ولكن الله لهؤلاء بالمرصاد؛ للطاغية وأعوانه ولكل من يشايعه ويخضع له، فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ [القصص:40-42]. وهكذا يكون مصير الطغاة، لهم يوم موعود ومصرع مشهود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|