أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
معاشر المسلمين، لقد تدرّعت الأمة بالهم والتحفت بالغمّ وخاب منها الأمل وكثر منها الوجَل يومَ أن تمكّن أحلاف الكفر من انتهاك كرامة بلد مسلم يملؤه أحباءٌ لنا وأشقاء، وتمكّن القهر من النفوس يوم أن رأت نزق المحتل وانتفاش الباطل ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء حتى تجرؤوا على رفع أعلامهم في بلاد المسلمين وتمويل حربهم من ثروات المسلمين، مع قلة الناصر وضعف المعين، والله المستعان.
وإن الله تعالى بحكمته لم يتركنا في الفتن هملاً دون توجيه أو تحفيز، بل أرشدنا إلى الالتياذ بكتاب الله واللجأ إليه لأن فيه الهدى والنور، وما من حال تمرّ بها الأمة إلا وجدت في كتاب الله ما يسلّي منها ويرفع الغمة عنها.
لقد أُرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه: فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، وأن ما حازته الأمم من القوة إنما هو جزء من قوة الله وأنه تحت قهر الله وسطوته، فلا خوف منه ولا ضمان لدوامه، وإنما هو تحت إرادة الله، فمتى شاء نزْعَه نَزَعه كما نزع قوّة النظام العراقي، ولكلّ أجل كتاب.
لقد أرشدنا سبحانه إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه قول الحق تعالى: وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ [النور:42]، وأن الخلق جميعهم صائرون إليه، يستوي في ذلك الطاغية الظلوم والضعيف المهضوم، فلا مهربَ من حسابه، ولا مفرَّ من لقائه، وإليه الأوبة والمعاد، وأن القهرَ والظلم والطغيان الذي يحصل اليوم ليس هو نهاية الأمر، وإنما نهاية الأمر يوم التغابن، يوم العرض على الله تعالى، والانتصاف من الجبّارين والمتكبرين والمعتدين وإذلالهم، وأخذ الحق للمظلومين والمقتولين وإعزازهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه التوجيه بعدم الاغترار والحزن بظهور الكفّار في زمن منَ الأزمان، وأخذهم بأسباب النعمة والوجدان والمكانة والسلطان، وأن ذلك متاع زائل واستدراج لهؤلاء الكافرين وإملاء لهم، وليس هو نهاية المطاف ولا نهاية الدنيا، وإنما هو متاع قليل لا يساوي شيئًا عند عاقبته الوخيمة ونهايته الأليمة، ولكن الذين كفروا يكذّبون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
لقد وجهنا الله في كتابه بآية عظيمة كأنما أنزلت في حالنا يوم ساورنا اليأس والقهر مما يجري، لقد قال تعالى في كتابه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]. متاع قليل يظفرون به، ولكنه ينتهي ويذهب، ويبقى لهم المأوى الدائم: جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ.
إن ما نسمعه اليوم ونشاهده لهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة، يوم نرى إخوة الدين يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجَهد، ويعانون المطاردة والقتل والنهب. يحيك في القلوب شيء يوم نرى أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون وأهل الحق يعانون، ولكن هذه الآية تأتي دواء لما يحيك في النفوس وشفاء لما يعتري الصدور، فلا مجال للاغترار بتقلّب الذين كفروا في البلاد؛ لأن الله أخبر بأنّ هذا المتاع قليل، وأنه ليس نهاية الطريق، بل إن مصيرهم إلى جهنم وبئس المهاد.
ولقد حذر الله من هذا الاغترار بتقلّب الكافرين في الأرض فقال: فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلاْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ [غافر:4-6].
إنها آيات تشفي الصدور المقهورة، وتداوي النفوس المكلومة، تعلّمها أن الكفار مهما تقلبوا وتحركوا وملكوا واستمتعوا فهم إلى اندحار وهلاك وبوار، وأن مصيرهم إلى النار، وأنهم في هذا الطغيان والتقلب في البلاد ليسوا الأولين، كما أنهم لن يكونوا الآخرين، بل سبقتهم أقوام وأحزاب على شاكلتهم، توحي عاقبتهم بعاقبة كل من يقف في وجه القوة الطاحنة العارمة التي يتعرّض لها من يعرض نفسه لبأس الله بظلم عباده وقتلهم وقهرهم.
لقد أرشدنا إلى الرجوع إلى كتاب الله تعالى لنجد فيه الأمر بالصبر والمصابرة في الرضا بما يقضي الله ويقدر، والصبر والمصابرة في حماية حوزة الدين، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلّوا من صبر المؤمنين الذين يجب عليهم أن يظلّوا أصبر من أعدائهم وأقوى، فلا مجال لمقابلة الجهد إلا بجهد أكبر منه، ولا مجال لمقابلة الوقاحة في الإصرار على الباطل إلا بإصرار أقوى على الحق، ثم تكون العاقبة بإذن الله للمؤمنين، فإذا كان الباطل يصِرّ ويصبر ويمضي في الطريق فلا مجال لأهل الحق إلا أن يكونوا أشدّ إصرارًا وأعظم صبرًا على المضِيّ في الطريق؛ ذلك أن المعركة إنما هي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدّمار والتنكيل.
أيها المسلمون، وما ذكره الله في كتابه عن حال الكفار الذين يغتصبون البلاد وأن متاعهم قليل وزوالهم سريع يصدّقه ما جرى في تاريخ المسلمين مع الكافرين، فأين المستعمرون الذين جثموا على البلاد الإسلامية وثرواتها؟! كم سنة تقلبوا في البلاد؟! إنها سنوات معدودة كانت أقصر من التوقعات، وكم مكث الذين أسقطوا بغداد يوم أن كانت حاضرة الخلافة؟! وكم سنة تقلّبوا في بلاد الشام؟! إنها سنتان فقط ثم هزموا شرّ هزيمة في عين جالون؛ ذلك أنّ لصاحب الحقّ مقالاً، وقد جعل له الله سلطانًا فلا مقامَ هنيئًا لمحتلّ في بلاد الإسلام.
نسأل الله يشعل العراق على الكافرين نارًا، وأن يجعل حياتهم فيها جحيمًا، اللهم لا تحقّق لهم غاية، ولا ترفع لهم في بلاد الإسلام راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفارا.
|