أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، حين دخل رسول الله البلد الأمين فاتحًا معظّمًا لشعائر الله ودينه أحلّ الله له بطاح مكّة ساعةً من النهار لتعودَ حرمتها أبديّة بعد ذلك، لا يخفرها إلا ظالم لنفسه منتهك لحرم الله، قال : ((إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخّص لقتال رسول الله فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشّاهد الغائب)) رواه البخاري ومسلم.
ولعلكم سمعتم وقرأتم ـ إخوة الإسلام ـ ما حدث في مطلع هذا الأسبوع من الفتن العظيمة في البلد الحرام الآمن، والتي سلمت منها أيدينا ونسأل الله أن يعصم من الخطأ فيها ألسنتنا، ولكَم يألم المرءُ ويدهَش لما أريق في البلد الحرام من دم حرام، وهو حدثٌ جلَل يقرع فوق رؤوسنا ناقوسَ الخطر، ويدعونا إلى الالتفافِ حول علمائنا والتشبّثِ بهدي سلفنا الكرام في اجتناب الفساد والفتن وما ينشأ فيهما من أراجيف وأكاذيب وبلايا.
ولا شك أنا رأينا بعض الشباب الذين لم يأخذوا العبرة مما حدث في تفجيرات الرياض، ولم يستمعوا لقول العلماء في هذه الأحداث، مما أدى بهم إلى الاستمرار في الطريق المخالف لشرع الله تعالى، وإن مهمة انتشالِهم من هذه الأفكار والتبيينِ لهم ولغيرهم ممن يظن سلامة طريقهم ومنهجهم هو واجب علينا، وهؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا جميعًا، والصراحة والصدق معهم واجب على كل من يريد وجه الله ويحرص على قطع الطريق على من يتربص بالدين وأهله ويشوِّه سمعة الإسلام ويستر محاسنه، ولذلك فإن الصراحة مع الشباب في مثل هذه الأمور لهو من العوامل الأساسية في الإصلاح.
ولذلك فإنا نقول لإزالة بعض الإشكالات الفكرية لدى الشباب: إن سلامة قصدهم لا تعفيهم من أخذ الدين بكماله وجماله وإعمال النصوص الشرعية جميعها دون تعطيل بعضها، يقول تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
ولقد كان منهج النبي واسعًا وواضحًا في التعامل مع أعداء الدين، فلم يلجأ النبي في يوم من الأيام إلى قتل بعض المسلمين من أجل قتل عدد قليل من المشركين، ولم يكن أحد من الصحابة يقتل نفسه عمدًا من أجل قتل المشركين، وما يحدث في فلسطين وغيرها من العمليات الاستشهادية هو من الأمور التي ضبطها العلماء الذين أفتوا بها بضوابط لا يسوغ أن يأتي الشباب ويأخذوا الحكم ويتركوا ضوابطه ويغيّروا موقعه بسبب حماس زائد أو قصور في التصور ونحو ذلك، وليعلم المقدم على أمثال هذه الأمور أنه قد أقدم على أمر عظيم في دين الله عز وجل، يقول تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰنًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، ويقول تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. فليت شعري من يسمع هذا الوعيد كيف يجرؤ على قتل نفسه؟! ومن يسمع هذا الوعيد كيف يجرؤ على قتل النفس التي حرم الله تعالى؟!
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنّسها اليهود والنصارى، إن هذا أمر نشاركك فيه، ولكن ضوابط الشريعة تمنعنا من تخطيها، فما الذي يضطرنا إلى هذا الطريق الضيق في مجاهدة الكفار؟! هذا الطريق الذي رأيناه في التفجيرات القريبة مليء بالمخاوف الشرعية على عامله قبل غيره، فهو في عمله هذا يدور بين أمرين: إما أن يعطل نصوص الشريعة ويجعل نفسه في نجوة منها، وإما أن يتقحمها بتأويلات باردة، وهذا والله هو قمّة الحماس، ولكنه في الحقيقة يفتقد الورع والخوف من وعيد الله تعالى، والذي عهدناه من ديدن العلماء والصالحين هو التزام الورع والوقوفُ عند حدود الله خوفًا من الله وتعظيمًا لحرماته، أفلا يسع الشابَّ الناشئ ما وسع العلماء والصالحين، يقول رسول الهدى : ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنسها اليهود والنصارى، إن دين الله تعالى قد جاء بمراعاة المصالح والمفاسد في الجهاد والعمل لنصر هذا الدين، وذلك بناء على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله في كتابه كما في قوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، وانتهجها النبي في سيرته الزكية، ومن ذلك ترك النبي قتل المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم، ومع ذلك لم يقتلهم النبي ، ورأى في دين الله فسحة أن يترك قتلهم خشية من المفاسد المترتبة على هذا القتل وهي أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وإن مخالفة سنة النبي واتخاذ غيره أسوة لا يورث إلا الفتنة والعذاب كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
كما أن النبي رأى في دين الله فسحة أن يؤجل قتال بعض الأعداء في أوقات الضعف أو الانشغال بقتالٍ آخر، وهذا من السياسة الشرعية التي يهبها الله لأوليائه وجنده قبل أن يمكّن لهم في الأرض وبعده، فهذا رسول الله يهادن قبائل اليهود عندما أتى المدينة في وقت الضعف، ويصالح قريشًا في الحديبية، وينصرفُ عن ثقيف، ويستميل زعماء غطفان وغيرها بالعطاء، وكان إذا أراد أن يغزو قومًا ورّى بغيرهم، وإذا عاداه قوم حرص على مصالحة الآخرين ليتفرغ لهم، وإذا حالفته قبيلة مثل خزاعة وهب مشركها لمسلمها ولم يستعْدِه، إذ لو فعل فربما خسر القبيلة كلها، وكان يفرق بين من نصره وحماه من المشركين، وبين من عاداه وآذاه وآذى أصحابه، كما أن المشركين كان منهم من تقاسموا على الكفر وعلّقوا صحيفة الجور والحصار في الشعب، ومنهم من أنكره ومزَّقها، فالنبي كان يفرّق بين هذا وهذا، وعامة الأمة اليوم تعمل بهذا التفريق المحمدي، فهي تفرح بمقتل يهودي في فلسطين أو نصراني في العراق، وترى ذلك جهادًا في سبيل الله، ولكنها تحزن إذا رضخ البعض لقلة الحيلة، فحكّموا عاطفتهم وقدموها على الشرع، فقتلوا المسلمين أو المعاهدين في بلاد الإسلام والذين لا ناقة لهم ولا جمل.
إنه لمن المؤسف أن تغيب هذه الحقائق الشرعية عن البعض، فنجدهم يستسلمون لأمواج الأحداث، ويدفعون بأنفسهم إلى ارتكاب الكبائر المتوعَّد عليها في القرآن بالوعيد الشديد، وذلك مع صراحة النصوص في أن المخالفين لنا في الدين ليسوا على حكم واحد، بل منهم المحارب المعتدي، ومنهم المسالم العادل، ومنهم المعاهد والمستأمن، والتفريق بينهم في التعامل ثابت بصريح القرآن وصحيح السنة وسيرة الخلفاء الراشدين وإجماع العلماء، يقول تعالى: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً [النساء:92]، ويقول رسول الهدى : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، ولم يكن هذا الوعيد بهذه الشدة إلا لأن البعض ربما استخف بحقوقهم لما فيهم من الكفر، فجاء هذا الوعيد ليردع بعض المتحمسين الذين لم يتبصروا بنور العلم الشرعي.
ولقد كان العهد والجوار محترمًا عند رسول الله حتى ولو كان المعاهد للمشركين من عامة القوم، فذمة المسلمين واحدة، يقول النبي : ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم))، ولما أجارت أم هانئ رضي الله عنها رجلاً مشركًا عام الفتح وأراد علي بن أبى طالب رضى الله عنه أن يقتله ذهبت للنبيّ فأخبرته فقال : ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) أخرجه البخاري ومسلم.
يا أيها المعتز بدينه والمتعالي بكرامته أن يدنسها اليهود والنصارى، يجب علينا ونحن نفكر في مقاومة الذلة والمهانة أن نُحكِّم شرع الله في تصرفاتنا، يجب علينا بلا خيار أن نرجع إلى نصوص الشريعة المحكمة، وأن لا نتذرع في انتهاك كبائر المحرمات بتأويلات باردة خاطئة منزَّلة في غير محلها.
يا أيها المسلم، اتق الله تعالى أن تلقاه وفي عنقك أنفسٌ مسلمة معصومة وأموال مسلمة معصومة أو ذرائع أوجدتها لأهل الكفر يتسلّطون بها على أهل الإسلام أو أسباب يفرح بها أهل النفاق ليحاربوا بها الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شيء حصلته وراء ذلك إلا موت عدَد يسير من الناس كلّهم من معصومي الدماء: إما مسلم أو معاهد، ثم يكون المرء قد ختم حياته بمجموعة من الكبائر المحرّمة في شرع الله، على أمل المغفرة من الله بسبب نيتك الصادِقة، وفي هذا ما فيه من المخاطرة الكبيرة والبعد عن الورع، فمن يضمن لك هذه المغفرة وقد جعلها الله تحت مشيئته: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:116].
إنّ هؤلاء الذين ألهبوا مشاعرك ثم وجهوها ذلك التوجيه الخاطئ لن يغنوا عنك من الله شيئًا، وستلقى الله تعالى غدًا مسؤولاً عن نفسك التي قتلتها، وعن أنفس مسلمة أو معاهدة أزهقتها، وعن أموال محرمة أتلفتها.
اللهمّ إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وكما عصمتَ منها دماءنا وأموالنا فاعصمنا من الخطأ فيها بألسنتنا وأقلامنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
|