أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله دار حصن عزيز، تمنع أهلها وتحرز من لجأ إليها، وبها تقطع حُمة الخطايا، فهي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا.
إن الفرد منا إذا تعرض لنكبات وخسارات فإن عليه أن يعيد لملمة أوراقه وترتيب صفحاته، ويعود لنفسه ليتبين موضع أقدامه، ويبصر مكان خطواته، ليصبح في أشد الحاجة إلى عمليه تجديد وبناء جديد، حتى تعود نفسه لبنة صالحة، فيقيم منها صرحًا شامخًا مشيدًا مجيدا، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ويقول سبحانه: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((عليك بخاصة نفسك)) أخرجه الأربعة إلا النسائي وحسنه الترمذي.
عباد الله، إن أعجب الأشياء مجاهدة النفس ومحاسبتها، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة وقدرة رهيبة، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما يكرهون، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر ظلمهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة، أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرائض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة، وإنما الحازم المُحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأُصول، فالمحقق المنصف هو من يعطيها حقها ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفلوة عنها لون من ألوان القتل صبرًا. قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
وإن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقد عليه العزم من شؤونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات، ملتمسًا عفو ربه ورضاه، طامعًا في واسع رحمته وعظيم فضله.
ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح، ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني))، والذنوب واردة على كل مسلم، ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة دون محاسبة، قال رسول الله : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي.
يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه لينجو من عذاب الآخرة، فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال فتيلا ولا نقيرا ولا قطميرا، وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء [فصلت:21]، الله أكبر، يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، قال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، وما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا)) رواه أحمد وغيره.
ونضر الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ورضي عنه ذا الكلمة الراشدة الراسمة طريق النجاح: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
إن ارتفاع النفس ونضوجها لا يتكون فجأة، ولا يولد قويًا ناضجًا دون ما سبب، بل يتكون على مكث، وينضج على مراحل، وإن ترويض النفس على الكمال والخير وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة وكرات من الحساب. وإنه لا أشد حمقًا ولا أغرق غفلة ممن يعلم أنه يُحصى عليه مثاقيل الذر، وسيواجه بما عمله من خير أو شر، ويظل في سباته العميق لاهيًا، غير مستعتب لنفسه ولا محاسب لها، يمسي على تقصير، ويصبح على تقصير، قال أحد السلف رحمه الله: "من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه، دامت خسارته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته" .
واعلم ـ أيها المسلم ـ أنه ما من بلاء أو مصيبة تقع بالإنسان إلا بسبب الذنوب، يوضح هذا موقف أبو الدرداء يوم انتصر المسلمون على الروم القياصرة وزالت دولتهم، حيث جلس يبكي فلما سئل: يا أبا الدرداء، أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال أبو الدرداء: (ويحك يا هذا، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، تركوا أمرا لله فصاروا إلى ما ترى). وقد حُمل ابن سيرين دينًا، فسئل فقال: "إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو؛ قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس".
قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى، والجزاء من جنس العمل.
يقول أحد السلف: والله، إني لأعلم ذنوبي حتى في انقطاع شراك نعلي وسير دابتي. ونظر أحد السلف إلى امرأة في السوق فقال له صاحبه: والله، لتجدن غبّها ولو بعد حين، أي: أثر هذا الذنب، فنسي القرآن بعد أربعين سنة من تلك الحادثة.
يا ابن آدم، البِر لا يبلى، و الذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ماشئت، فكما تدين تدان.
إن لله عبـادًا فـطـنـا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيـها فلمـا علموا أنهـا ليسـت لِحَىٍّ وطنا
جعلـوها لُجَّة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سُفْنا
فالفطناء العقلاء هم الذين عرفوا حقيقة الدار، فحرثوها وزرعوها، وفى الآخرة حصدوها. فالذم الوارد فى القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل ونهار، فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، والذم الوارد للدنيا فى الكتاب والسنة لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكنًا ومستقرًا، والذم الوارد فى القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وجميع خلقه، إنما الذم الوارد فى القرآن والسنة يرجع إلى كل معصية ترتكب فى حق ربنا جل وعلا.
أخي الحبيب، دنياك مهما طالت فهى قصيرة، ومهما عظمت فهى حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر.
دع عنك ما قد فات فى زمن الصبـا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسـه الملكـان حيـن نسيتـه بـل أثبتاه وأنت لاه تلعـب
والروح منك وديـعة أودعـتهـا ستردهـا بالرغم منك وتسلب
وغـرور دنـيـاك التى تسـعى لها دار حقيـقتها متاع يذهـب
الليـل فاعلـم و النهــار كلاهما أنفاسنـا فيـها تعد وتحسب
قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنِـيبُواْ إِلَىٰ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [الزمر:53، 54].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|