أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
كان دعوة أبيه إبراهيم حين قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، وكان بشرى أخيه عيسى بن مريم عليه السلام حين قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، وكان رؤيا أمّه حين رأت في المنام قبل ولادته نورًا خرج منها أضاءت له قصور الشام.
إنه محمد الذي كانت دعوته إجابة لدعوة إبراهيم ومصداقًا لدعوة المسيح عليهما السلام وتعبيرًا لرؤيا أمه، فجعله الله سراجًا منيرًا استنارت به الأرض بعد ظلمتها، وجمع الله به الأمة بعد شتاتها، واهتدت به البشرية بعد حيرتها، ومع بعثته ولدت الحياة وارتوى الناس بعد الظمأ.
لما أطلّ محمد زكت الرُّبى واخضرّ في البستان كلّ هشيم
فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقامت للإسلام دولته، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل، توحيد خالص لله وحده، وعدل وإنصاف، وتحابب وتآخ، واعتزاز وعزة كرامة وهيبة في قلوب الأعداء، وعاش المسلمون في ذلك العهد الفريد ردحًا من الزمن أحبّ فيها صحابة رسولِ الله رسولَ الله وعظموه واقتدوا به حبًا حقيقيا وليس ادعاءً، يقول المشركون لخبيب بن عدي رضي الله عنه وقد أسروه ثم صلبوه ثم عذبوه عذابًا شديدا فيقول له أحدهم: أتحب لو أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله، إني لا أتمنى أن أكون في أهلي آمنًا مطمئنًا ويصاب رسول الله بشوكة.
هكذا كان حب صحابته له، وترجموا ذلك الحب باتباعه واتباع سنته وتطبيق أوامره واجتناب نواهيه، وعندما ضعف نور النبوة في حياة الأمة وقلّ تمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها ضعف هذا التعظيم في حياة الأمة وحرِّفت محبة النبي حين حاول بعض الغيورين جهلاً أو غفلة جبر هذا الضعف بإحداث بعض المظاهر والاحتفالات التي لم يعرفها ولم يقمها خير من عظم المصطفى ، وضاعف المأساة أن سوقَ الجهل في الأمة أصبحت رائجة وأُهمل العلماء وهمِّش دورهم، فكان الأثر على أمة الإسلام واضحًا في انتشار البدعة ورواجها، كما ساعد الفكر الإرجائي الذي صاحب هذا الانحراف وكذلك الاتجاه الرافضي المتمثّل في الدولة العبيدية المسماة بهتانًا الفاطمية في إقامة الموالد وقصر محبة النبي على مجرد كلمات مدائح يتغنى بها المنشدون في الموالد والمناسبات من غير أن يكون لهذه الكلمات أيّ أثر من عمل واتباع لمن يزعمون محبته وتعظيمه وإقامة المولد له، وكلما اشتد الجهل والغفلة والادعاء زاد الغلو والانحراف الذي حذر منه المصطفى في أكثر من حديث نبوي، ومع الزمن ينتشر هذا الحبّ الزائف والغلو المنظّم بين قطاعات عريضة في الأمة، وترعاه الدول والحكومات، بل تكون أيام هذه البدع إجازات وتتّخذ هذه الحفلات والموالد أشكالاً ووسائل شعبية ومجالاً للترفيه والترويح، وقد يشتمل بعضها على عدد من الأمور المنكرة كاختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء أو أعمال شرّ كثيرة أو شرك كالاستغاثة بالنبي أو ادعاء حضوره أو ما يسمى بالحضرة النبوية.
وتكون تلك الموالد مواسم ارتزاق لبعض المنتفعين ومناخًا لنشر البدعة، ويستغله بعض المغرضين ويدعي بعض الطيبين أنها فرصة للدعوة إلى الدين إضافة إلى النيل ممن يسمونهم بالمتشدّدين عبر قنواتهم الفضائية أو عبر إعلامهم، وذلك بلمزهم والنيل من محافظتهم على عقيدتهم وعدم الابتداع في الدين.
أيها الأحبة، إن احتفالات المولد النبوي على اختلاف مقاصد فاعلية لا شك أنه بدعة في الدين محرمة محدثة أحدثت في القرن الرابع الهجري على يد الرافضة العبيديين حين بدأه المعزّ العبيدي وأحدث معه خمسة موالد أخرى لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم وأرضاهم، وأحدث كذلك مولدًا لمن يحكم من العبيديين، وأقام العبيديون بعدها عددًا من الاحتفالات كعيد الخليج وعيد النيروز المسمى الآن عيد الربيع وعيد لكل من زعموا الولاية له، وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم ليتلهوا بها من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق، فما أن يتفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحقوا بغيرها.
ثم أظهر الاحتفال بالمولد بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في أواخر القرن السادس وأول القرن السابع الهجريين، حيث فعله قبلهم بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا وهو من الصالحين المعروفين، فاقتدى به حاكم إربل كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلِّكان وغيرهما، يقول ابن خلكان: "فإذا كان أول صفر وضعوا الزينة الفاخرة وجوق الأغاني وتبطل معايش الناس وأخرجوا من الطعام ما يفوق الوصف ويزف الناس بالطبول والأغاني والملاهي حتى تمتلئ بها الميادين" انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد النبوي، فإنه حدث متأخّر عن القرون الثلاثة الفاضلة، ويكون مقترنًا باللهو والترف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الموسوم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم قال: "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبّة للنبي وتعظيمًا له من اتخاذ مولد النبي عيدًا مع اختلاف الناس في تاريخ مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان خيرًا محضًا أو راجحًا كان السلف أحق منا بفعله، فإنهم كانوا أشدّ محبة وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرًا وباطنًا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزله من يحمل مصحفًا ولا يقرأ فيه ولا يتبعه" انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ؛ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي كانت تلك الليلة، وقد اختلفت أقوال المؤرخين في ذلك: فبعضهم جعله في الثاني من الشهر، وبعضهم في الثامن من ربيع الأول أو التاسع أو السابع عشر، وبعضهم في الثاني والعشرين، وليس من قول لديه دليل يرجحه، إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه في اليوم التاسع" انتهى كلامه رحمه الله.
إخوتي، إن عدم معرفة تاريخ المولد بدقّة لأكبر دليل على أن الصحابة ومَن بعدهم من القرون الفاضلة لم يقيموه، ولم يكن دليل صدقهم في حب النبي أو الإيمان به مولدًا يصنعونه لرسول الله أو ذكرى يهيمون بها أيامًا وليالي ثم ينسون سيرته وسنته وهديه بعد ذلك، لقد كان دليل صدقهم وإيمانهم ومحبتهم هو اتباعهم لسنته، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
عباد الله، إن الله تعالى الذي بعث محمدًا وقرن الشهادة برسالته بالشهادة بوحدانيته سبحانه وتعالى هو الذي جعله الأسوة الحسنة كما هو صريح القرآن، أسوة في حياته وأقواله وأفعاله وسلوكه وتصريفه لشئون الحياة، وإنه لمن العقوق لرسالة الإسلام ولسيرة النبي ومن الكفران بهما أن يعمل الإنسان ببعض الأحكام ويكفر ببعض، وعلى هذا فإن صدق الاحتفاء بذكرى مولد الرسول إنما يكون بمتابعة الطريق وكيف عاش عليه الصلاة والسلام للدعوة وسخّر لها حياته، وإنما يأتي مثل هذا الانحراف بدءًا من ادعاء المحبة وغيرها والقرآن الكريم حسم دلائل المحبة للرسول في قوله جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. فالمحبة تقتضي الاتباع وليس الإحداث والابتداع، واتباع النبي في أقواله وأفعاله أحد ركائز دين الإسلام وأساسياته ومن أعظم مسلمات الشريعة والأمور المعلومة منها بالضرورة، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وكثيرًا ما يوجد عدد من المنكرات في الأمة أسبابها الغلو ولو كان هذا الغلو في رسول الأمة ، وذلك بالاستغاثة به وطلب المدد منه واعتقاد أنه يعلم الغيب وترديد قصيدة البوصيري في مدح النبي وهي تشتمل في عدد من أبياتها على الشرك المحض وغير ذلك من الأمور التي يتعاطاها بعض هؤلاء الناس حين احتفالهم بمولد النبي ، وقد صح عنه أنه قال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))، وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) أخرجه البخاري.
أيها المسلمون، إننا في الوقت ذاته الذي ننكر فيه الغلو في رسول الله ونستنكر تلك الممارسات المبتدعة التي اختزل فيها حب النبي مع كل ذلك فإننا نستنكر كذلك الجفاء في محبة الرسول ، نستنكر الجفاء في محبته وعدم معرفة فضله على الأمة وأنه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، هداهم إلى الصراط المستقيم، ولم يترك سبيلاً لهدايتهم إلا سلكه، ولا علمًا إلا بذله، فصلوات الله وسلامه عليه. فمعرفة حقه على كل مسلم واجب عظيم، لا ينبغي تركه وإهماله، وكما أن الغلو مردود فكذلك الجفاء مرفوض بكل صوره وأشكاله، وإن وصاياه لأمته كانت في التمسك بالدين وعدم الإحداث فيه: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
إن فيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث، فاتقوا الله عباد الله، واستغنوا بما شرعه الله عما لم يشرعه، وبما سنه رسول الله عما لم يسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|