أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتّقوا الله رحِمكم الله، ابتَدَأكم بإحسانِه، وأتمَّ عليكم نِعمَه وإفضاله، حلُم مع الاقتدار فلا يغترَّنَّ عبدٌ بالإهمال، ولا يغفَلنَّ مِن خوف الاستدراج، عافانا الله وإيّاكم مِنَ الاغترار بعدَ الإمهال والاستدراجِ بالإحسان، واعلموا ثمّ اعلموا أنّ من الغفلةِ السّفرَ من غير زادٍ والذهابَ إلى القب الموحشِ بغير أنيس، ومن التّفريط القدوم على الحكمِ العدل بغير حجّة. مَن وقف في غير بابِ الله طال هوانُه، ومَن أمَّل غيرَ فضل الله خابت آماله، ومن ابتغى غيرَ وجه الله ضاعَت أعمالُه، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
أيّها المسلمون، الوقتُ مادّة الحياة، والزّمنُ وِعاء الأعمار، والأوقات خزائنُ الذّخائر، والأعمال الصالحة هي أعلَى ذخائر، والوقتُ أغلى ما عُنِي الإنسانُ بحفظه، وتصرُّم الزمان أعظمُ واعظ، وانقضاء الأيّام قِصَر في الأعمار، والعُمر أثمنُ بضاعة، والحسرةُ والخَسار لمن قصَّر فيه وأضاعَه، ومِن علامات المقتِ إضاعةُ الوقت، ومَن حفِظ وقتَه فقد حفِظ عمرَه، وإذا أحبّ الله عبدَه بارك له في عُمره ووفَّقه لحُسن عِمارة وقته، والخيرُ والتّوفيق في بركة العمر، لا في طولِه ولا في قصَره، فكم مِن إنسانٍ أمّل الحياةَ وطولَ البقاء فعاشَ إلى زمنٍ بكت فيه عيناه وتقرَّح فيه قلبُه ورأى من شدائدِ الفتَن وصروفِ المحَن ما لا يكادُ يُطاق، والأقدارُ مغيَّبة، والليالي من الزمانِ حُبالى، وكما يعوذُ المسلم بربِّه من فتنة الممات فإنّه يعوذ به من فتنةِ المحيا.
يا عبد الله، الوقتُ كالسيف، وكم لهذا السّيف من ضحايا وصرعَى، تراهم في الأسواق يتسكَّعون وأمامَ الشاشات متسمِّرون وبين يدَي شبكاتِ المعلومات مستَسلمون، كم ندِم المفرِّطون، وكم تحسَّر المقصِّرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]. فمن أصحَّ الله له بدَنه وفرَّغ له وقتَه ولم يسعَ لصلاحِ نفسِه فهو المغبون، بذلِك أخبر الصادِق المصدوق حين قال: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ)). وحين يحُلّ المرض وتشتدّ العلّة تنكمِش الأعوام حتى كأنها لحظاتُ برقٍ وامض.
أيّها المسلمون، يحسُن التذكير بهذا والشّباب والأسَر تعيش استقبالَ عامٍ دراسيّ في كثيرٍ من الديار والبلدان، والحديثُ عن التعليم والمناهِج والتوجيهِ والإرشاد وحسنِ استغلال الوقتِ والاستفادةِ منه حديثٌ يطول، تحدّث فيه المربّون، ووعظ فيه الواعِظون، ونبّه إلى أساليبِ استغلالِه المصلِحون، في حديثٍ للآباء والأمّهات والمربّين والمربّيات في برامجَ علميّة ومناشطَ ترفيهيّة في فنِّ إدارةِ الوقت وخدمةِ المجتمع وتنميةِ المهارات وصلاحِ الدين والدنيا.
أيّها المسلمون، الإبداعُ واكتشاف المواهِب وتنمية الملكات مطالبُ مهمّة ووسائل محكمَة لبناء العقول وبناءِ الشخصية وشغلِ الأعمارِ والأوقاتِ بالمفيد النافع من العلوم والأعمال. ومن جانبٍ آخر فإنّ توفيرَ الجوّ الصالحِ المكشوف المعلَن في مزاولةِ النشاط وممارسةِ العبادات الصحيحةِ والخلُق السليم كلّ ذلك جديرٌ بصياغةِ الشّباب والناشئة صياغةً صالحة مستقيمة متوازِنة في صلاح الدين والدنيا معًا، مناشِطُ معلَنَة تؤهِّل للصّلاح والنّجاح لينفَعوا أنفسَهم وأهليهم وأمّتَهم وأوطانهم.
معاشرَ الأحبّة، وإنّ مِن أفضل ما تصرَف فيه الأوقات وتصقَل المواهِب ويبني ويُصلِح وبخاصّةٍ في هذهِ الظّروف مراكز خدمة المجتمَع والدّورات العلمية وحلقات تحفيظ كتابِ الله وتعليمه، فهي فرَصٌ تربويّة وتجمُّع للشّباب حميد، عظيمٌ نفعُه، ثريّة معلوماته، يحفَظ الأوقات، ويعين على الخير وتوثيق الصلاتِ. برامجُ مُعَدَّة إعدادًا حسَنًا في دروسٍ مفيدة بحُسن السّلوك وصلاح الدّين وتصليحِ الأخطاءِ وتقويم المعوَجّ على نهج السّلف الصالح. محاضِن تربويّة على قِصَر مدّتها فيها منافِع يعزّ تحصيلها في غيرها. هذه المراكزُ والدّورات والحلَقات والمناشط تربِّي على مكارِم الأخلاق ومعاليها وتنهَى عن سيِّئها وسفسافها، تشارِك في البناء وروح الإبداع.
إنَّ هذه المراكزَ والمناشط والدّوراتِ والحلقات وأمثالَها تعلِن أنّ الشبابَ بحاجةٍ إلى اليدِ الحانية الرحيمةِ التي تقدِّم لهم النصحَ والتوجيه والإرشادَ والهداية في قوالِب من الودّ والشّفقة والملاطَفَة تُشعِرهم بدَورهم في الحياةِ وأثرِهم في المجتمع وأهمّيّتهم في أمّتهم وإشعارهم بالأخطار التي تهدِّدهم وتهدِّد دينَهم وأوطانهم، تذكِّرهم بالقُدوات الصالحة من سلَف الأمّة وخلَفِها من قياداتها وحكّامِها وعُلمائها ورِجالاتها؛ ليتعمَّق فيهِم الشّعورُ الحقّ بالانتماءِ لدينهم والاعتزازِ بأمتِهم والغيرة على ديارهم والاستعصاء على حَمَلات التّغريب والتذويبِ والاختلاط وألوانِ التطرُّف والغلوّ والتشدّد.
إنَّ من المؤكَّد أنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ والحلقات وأمثالَها كلُّ أولئك محاضن تربويّة، تحفظ أوقاتَ الشباب فتيانا وفتياتٍ، ترشِدُها وتُرَشِّدُها في مناشطَ علميّة وتربويّة ومَسلكية ومِهنيّة وحِرفيّة، تربيةً على الصلاحِ والإصلاح والخلقِ الفاضل وترسيخِ الانتماء لدين الله وأخوّة الدين والولاء لولاةِ الأمور وحبِّ العلماء وتقديرِ رِجالات الأمّة والاحترام والحبّ للصّغير والكبير وإِكسابِ المهاراتِ واكتشافِ المواهب والملكات وحُسن التعامل مع المشكِلات والإسهام في تشخيصِها وحلِّها وبثّ روحِ التعاون والعمل الجماعيّ والمثمِر وتحمُّل المسؤوليّة وغَرس عُلوّ الهمّة وتكوين الاتِّجاهات الإيجابيّة نحو العمَل والتدريب والإتقان والابتِكار والتجديد بِطُرقٍ تقنيّة متقدِّمة والتدرُّب بأسلوبٍ مشوِّقٍ مبتَكَر والتّدريب على تقديم الخدمات العامّة والحِفاظ على المرافق وصيانة الممتَلَكات العامّة والخاصة والالتزام بالآدابِ العامّة والانخراط في دوراتٍ علمية وندواتٍ فكريّة تعلِّم أدبَ الحوار وحسنَ الاستماع للرّأي الآخر وحسنَ التعامل مع الآخرين وقبولَ الحقّ ممّن جاء به.
مراكزُ وندَوات وحلقات ودورات تضمّ المئاتِ والآلاف منَ الفِتيان والفَتَيات، في مناشطَ وفعاليّات لا تقدِّمها المدارس والجامعات والمعاهِدُ، ولا يتضمّنها كتابٌ مدرسيّ ولا منهَج دِراسيّ. مراكزُ يكتشِف فيها الشابّ قدراتِه ومواهبَه ويجرِّب ملكاتِه وإمكاناتِه، يكتشِف كلَّ ذلك ويمارِسه على مرأَى ومسمَع من مشرفين ومعلِّمين ومدرِّبين وموَجِّهين موثوقِين مِن أهل الفضلِ والصّلاح والخِبرة والاعتدال والعِلم والاختصاص. نعم، إنهم معلِّمون وموجِّهون ومرشدون ومدرِّبون وعلماءُ مؤهَّلون علميًّا وعمليًّا وتربويًّا، وموثوقون في آرائِهم واعتدالهم وحُسن فهمِهم للأحوال والمتغيِّرات والظروفِ والمستجدّات.
أيّها المسلمون، معاشرَ الإخوة، إنَّ الحقَّ والمصلحةَ والحِكمة وبُعد النظر والرؤية والروِيّة تقتضي مضاعفةَ هذه البرامج والتوسُّع فيها لتشمَلَ نشاطاتٍ وإبداعات لم تكن موجودةً ولا ممارسةً مِن قبل؛ مثل التعليم الفنّي والتدريب المهني وتعميقِ مفهوم التديُّن الصّحيح والمواطَنَة الصّالحة ومكافحةِ الإرهابِ وتصحيح المفاهيم وإزالة ما قد يلتبِس حول مفاهيمِ الجهاد والولاءِ والبراء وغيرِها من بعضِ المصطَلَحات والتحذير من الجفاءِ وضَعف التديُّن والمُيُوعة والانحلال؛ ليتربَّى النشء على ممارسةِ حياةٍ هادِئةٍ مستقِرّة ملِيئةٍ بالحيَوِيّة والجدِّية والنافِع المفيد، بعيدًا عن فضولِ النّظرات والكلِمات والتصرّفات، وحُسنِ استخدام المنجَزَات التقنيّة مِن هواتِف وحاسِبات وآلاف وأدواتٍ وشبكات معلومات، بل إنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ من الممكِن أن تزيدَ في الإبداع والجاذبيّة والتجديد فتعمِّق وتدقِّق حتى تجعلَ من برامجها ومناشِطها ما يشمَل التوجُّه نحوَ ترشيدِ نشاطاتِ التسوّق والتنزّه والسياحةِ؛ لتجعلَ مِن كلّ ذلك متعةً عائليّة أو فردِيّة تعتمِد الانضباطَ والذوقَ الرفيع والخلُق الكريم والأدب الجمّ.
أيّها المسلمون، إنّ من المأمول مِنَ الجامعات والمعاهدِ والقطاعات التعليمية والمهنية والتدريبيّة ومراكزِ خدمة المجتمع أن تعِدّ خُططًا محكَمَة لمراكزَ وبرامج ونشاطات تقدَّم للطلاب والشّباب، برامجُ تعينهم على مواجهةِ التحدّيات الكبرى في الفِكر والسلوك في الحاضِر والمستقبل، خططٌ حصينة محكَمَة تحُول دونَ وقوعِ هؤلاءِ النّاشِئَة ضحيّةَ أهوالٍ جِسام من الإرهابِ والتزمُّت والمخدِّرات والميوعةِ والتحلُّل والتفسّخ، تقيهم من غُثاءِ القنواتِ وشبكاتِ المعلومات وقرناءِ السوء والمقاهي الموبوءَة والاستراحاتِ المسوَّرة والشُّقَقِ المغلَقَة. هذا الغثاء الذي انساقَ إليه فِئاتٌ من الشّباب في غفلةٍ من المصلِحين والمسؤولين.
كما ينبَغِي أن تفتحَ الأندِيَة الرياضيّة والأدبيّة أبوابَها وتستنفرَ طاقاتها وإمكاناتِها لترسمَ وتخطِّط وتستعدَّ لاحتواءِ الشبابِ في برامجَ جذّابةٍ نظيفة رياضيّة وثقافيّة واجتماعيّة ومهنيّة ومناشطَ سياحيّة منضبِطة، مع التّأكيد على ضرورةِ دَعم كلِّ هذه المرافِق بما تحتاجُه من دعمٍ مادّيّ ومعنويّ لتقومَ بهذه المهمّة العظيمة.
إنّ الإنفاقَ على هذه المراكزِ والمعاهِد والأنديةِ والدورات والحلقاتِ والبذلَ السّخيّ مِن أجلها من أهمّ وجوهِ الإنفاق، يجب أن يتوجَّه إلى ذلك ويدعمَه الحكوماتُ ورجال الأعمالِ والقادرونَ النّاصحون المصلِحون.
عبادَ الله، إنّ من الحكمةِ والعقل وحصافةِ الرّأي أن تُفتَحَ كلّ هذه الميادينِ وتُملأ بذوِي الفكرِ السوِيّ، تُفتَح الأبواب وتشرَع النوافِذ وتهبَّ التّيّارات والنّسائم لتطردَ الروائحَ الكريهة والأجواءَ الرّاكدة والترسُّباتِ الآسنةَ؛ ليدخلَ الهواءُ الطّيِّب والتّيّارات الصّالحة الزّكيّة.
إنَّ من المؤكَّد أنّ هذا الفتحَ والانفِتاح هو سبيلٌ مستقيم لجلبِ كلِّ صالح ودفعِ كلّ سيّئ؛ ذلك أنّ ما يُنسَب مِن إساءاتٍ أو سلبيّات لبعض المنتسِبين لهذه المراكِز والدّورات أو المنخَرِطين فيها هي سلبياتٌ محدودَة موجودة في كلِّ مرفقٍ ومَنشط. يجِب النّظرُ والتدبّر: هل منَ الحكمة منعُ هذهِ الفعاليّات؟! وهل إذا مُنِعت أو أقفلَت سيكفُّ المسيئونَ عن إساءَتهم، أم أنهم سيَبحثون عن قنواتٍ ومجالات أخرى أكثرَ فاعلية وأشدّ أثرًا وتأثيرًا لسوئِهم في أجواء سريّةٍ وأماكنَ مغلَقَة في شُققٍ وخلَواتٍ برّيّة ومواقع بعيدةٍ عن الأنظار والمراقَبَة؟!
إنَّ الانكفاءَ والحذَرَ السّلبيّ ما هو إلاَّ هروبٌ عن حلِّ المشكلة يزيد من انتشارها ويضاعِف في سلبيّاتها، بل يزيد من العتُوّ والتجبّر والانفِلات. إنَّ فتحَ هذه الأبوابِ خيرٌ من إغلاقها، وقَفلُ أبوابِ الخير من أجلِ فئةٍ قليلةٍ شاذّة ليس من الحكمة ولا من الرّشد، وهل المسؤول وصاحبُ القرار من العَجز وقلّةِ الحيلة أن يمنَعَ الكثرةَ الكاثرة من الخير من أجلِ فِئةٍ شاذّة لا يمنَع من سوئِها وإيذائها مثلُ هذه المواقف والقرارات. إن هذه القلّةَ الشاذّة يجب أن تواجَهَ في ميدانِ واضِحٍ فَسيحٍ.
وبَعد: فإنّ كلمةَ الحقّ إن شاء الله أنّ هذه المراكزَ والبرامجَ والأندية وأمثالها سدودٌ ضخمَة أمام كلّ فكرٍ منحرِف أو توجّهٍ متطرِّف أو نهجٍ منحلّ، أمّا الأخطاء أو النقص فيظلُّ أمرًا بَشريًّا في كلِّ جهدٍ وعمَل، محكومًا عليه من قِبَل أفرادِه ومن باشرَه مِن مدرِّبٍ أو متدرِّبٍ أو معلِّم أو متعلِّم، ولا يكون حُكمًا على المشروعِ كلِّه أو على المنشأةِ كلِّها، فهذا ظُلمٌ وتعدٍّ ومجافاةٌ عن سبيلِ الحقّ والعدل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|