أما بعد: أيها الإخوة في الله، إننا في زمن عصفت فيه الفتن، وماجت فيه المنكرات، واندفق علينا سيل جارف من الشهوات والملهيات والمغريات، من مجلات وأفلام وقنوات وأغنيات ومنكرات، فجّرت في النفوس براكين الشهوات، وكانت ـ وللأسف ـ سببًا في سقوط بعض الشباب والفتيات في حمأة الرذيلة والفاحشة.
ولا سبيل لنيل الفضيلة وحفظ العرض إلا بما شرع الله وأباح من الزواج، الذي لا يشك مسلم أنه من الواجبات وخاصة في هذا الزمان، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في التزويج هذا الزمان؟ أي: في زمانه هو، زمان الإمام أحمد العفيف الطاهر، فقال رحمه الله: مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج، ليت أنه إذا تزوج اليوم ثنتين يسلم، ثم قال: ما يأمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبطَ عمله؟! إذا كان هذا زمن الإمام أحمد فماذا نقول نحن في زماننا هذا؟!
أيها الإخوة الكرام، الزواج سنة الأنبياء والمرسلين، وهو سبيل المؤمنين، ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)).
الزواج تلبية لما في الرجل والمرأة من غريزة النكاح بطريق نظيف مثمر، ولذا نهى الله عن عضل البنات ومنع تزويجهن فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232]، ولذا عظّم الله شأن الزواج وسمّى عقده مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
في الزواج حفظ العرض وصيانة الفرج وتحصيل الإحصان والتحلّي بفضيلة العفاف عن الفواحش والآثام. في الزواج حفظ النسل وتكثير الأمة المسلمة. في الزواج تحقيق السكن والاطمئنان والراحة من كدر الحياة وشقائها وعناء الكدّ والكسب. والزواج من أسباب الغنى ودفع الفقر والفاقة، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. والزواج يرفع كل واحد من الزوجين عن عيشة البطالة والفتنة إلى معاش الجد والعفة بطريقها المشروع. وبالزواج يستكمل كل من الزوجين خصائصه، فيستكمل الرجل رجولته، ويتحمل مسؤوليته، وتستكمل المرأة أنوثتها وتشعر بمسؤوليتها تجاه بيتها وزوجها وأبنائها ومجتمعها.
معاشر المسلمين، هذا الزواج، وهذه فضائله، فهو نعمة من نعم الله العظيمة، وآية من آياته الكريمة، ولكن ـ وللأسف ـ نرى هذه النعمة قد أحيطت هذه الأيام بأمور تحوّلها إلى بلاء ونقمة، قد أحيطت بمنكرات تُمحق بركتها وتُذهب لذّتها، وتحدّ من انتشارها وأثرها.
ومن أعظم الجهل أن نقلب السعادة بأيدينا نحن إلى شقاء، والسرور إلى تعاسة، من أجل عادات ممقوتة أو تقاليد بالية أو شُهرةٍ زائفة أو مفاخرة مذمومة. والنتيجة تطاول العمر بكثير من الشباب عاجزين عن توفير تكاليف الزواج، وانتشار العنوسة وتأخر زواج الفتيات، فلا غرابة عندها أن يحلّ الشر والفتنةُ والفسادُ العريض، لقول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
لقد أصبح الزواج الذي كان في السابق وإلى عهد قريب من أيسر الأمور، أصبح من أشق الأمور وأعسرها؛ لأننا ألزمنا أنفسنا بأعرافٍ وشكليات، وأثقلنا كواهلنا ببدع ورسميات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقرها شرع ولا يقبلها عقل.
لقد أحيط الزواج في هذه الأيام بأسلاك شائكة جعلت الحلال عسيرًا، بينما شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا. أصبح الزواج اليوم محاطًا بأغلال الفخر الزائفة والخيلاء الكاذبة، والآباء والأمهات والقدوات في المجتمع بأيديهم القضاء على كثير من المشاكل والعادات والتقاليد التي جعلت العزوبة تفشو في شبابنا والعنوسة تغزو بناتنا.
وأول العقبات في الزواج المغالاة في المهور، الذي أصبح عند البعض رمزًا للمفاخرة، إما تقليدًا للغير، ففلان زوج بكذا، وفلانة بكذا، وابنتنا ليست بناقصة، وماذا يقول الناس عنّا إذا زوجناها بكذا؟! وقد يكون الطمع والجشع من بعض الآباء والأمهات سببًا في ارتفاع المهر، وتدخّل النساء يجرّ المتاعب ويفسد أكثر مما يصلح إلا من رحم الله.
لقد ظن بعض الناس أنه كلما زاد المهر كلما زاد شرف وقدر ابنته، والعكس هو الصحيح لفعل النبي الكريم الذي ما أصدق امرأة من نسائه ولا بنتًا من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ونصف، أي: ما يعادل اليوم 116 ريالاً. ولقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((أعظم النساء بركة ـ وماذا يريد الزوج وأهله وأهل الزوجة سوى البركة؟! ـ أيسرهن مؤونة))، فكلما زادت المهور والتكاليف قلت البركة والخير، وكلما كان الاقتصاد والتيسير عظمت البركة بإذن الله، ولو تتبعنا بعض حالات الطلاق لوجدنا الزواج كان قائمًا على الكلفة والتعسير والمبالغة مما أفقده بركته حتى وقع الطلاق، وقال : ((خير الصداق أيسره)).
وقد زوج النبي على خاتم من حديث، وزوج على وزن نواة من ذهب، وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء هذه الأمة لعلي على درع حطمية، وزوج على وسادة من أدم حشوها ليف ودقيق وسويق، وزوج رجلاً بما معه من القرآن، فالمهر رمزٌ ولم يكن في الإسلام يومًا ثمنًا.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الظواهر الغريبة التكلّف والسرف في عقد القران والملكة، حتى أصبحت كالزواج، تحجز من أجلها القصور وتذبح الذبائح الكثيرة، وكان الأولى هو التيسير والتواضع.
ومن العادات عند البعض ما يسمى بالكساوي لأم الزوجة ووالدها وبعض أقاربها، إما مالاً أو هدايا ونحوها، وقد يعدّ من عيوب الزوج ومناقصه عدم دفع هذه الكساوي، بل قد لا يتمّ العقد لو أصرّ على عدم تقديمها.
ومن المنكرات خلوة الخاطب بالمخطوبة وخروجها معه قبل العقد بحجة التعرف على الأخلاق والطباع، مما أوحت به الشاشة والأفلام، وهذا منكر وحرام، فما لم يتم العقد فلا تجوز الخلوة بها لأنها أجنبية عنه، ولا تجوز مصافحتها، ولا النظر إليها ولو بوجود محرم لها حتى يتم العقد.
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خطبت امرأة، فقال لي رسول الله : ((أنظرت إليها؟)) قلت: لا، قال: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، قال المغيرة: فأتيتها وعندها أبواها وهي في خدرها، فقلت: إن رسول الله أمرني أن انظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرفعت الجارية جانب الخدر، فقالت: أحرّج عليك إن كان رسول الله أمرك أن تنظر إليّ لما نظرت، وإن كان رسول الله لم يأمرك أن تنظر إلي فلا تنظر، قال: فنظرت إليها ثم تزوجتها فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها.
ومن المنكرات أن يستبدل بعض الناس النظرة الشرعية بالصور الشمسية، وهذا مع حرمته لا يرضى به إلا قليل الغيرة والحياء، وفي المقابل تعجب من أناس قد تبرج بناتهم ونساؤهم ونزلن الأسواق لوحدهن وخالطن الرجال فإذا ما جاء الخاطب تمنّعوا أن ينظر إليها لأن عادتهم ترفض ذلك وتأباه.
ومن المنكرات دبلة الخطوبة، تلكم العادة النصرانية الوافدة على المسلمين، وقد تكون من ذهب يلبسه الرجل، وهذا إثم على إثم، ومنكر على منكر؛ لما فيها من الاعتقاد الباطل والتقليد المُضرِّ.
ومن المنكرات قراءة الفاتحة ونحوها بعد الموافقة أو عند العقد، فإنه من البدع المحدثة في الدين.
ومن المنكرات عدم التحري في اختيار الزوجة أو الزوج، كالزواج من امرأة لا تصلي، أو تزويج من لا يصلي، فإنه منكر عظيم، إذ الصلاة ركن الإسلام وعموده، وتاركها كافر لا يحل تزويجه ولا معاشرته، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)).
ولو علم ولي المرأة أن خاطبها لا يصلي ولو بعد العقد وجب عليه فسخ هذا النكاح ومفارقة هذا الزوج، ولأن تبقى الفتاة في بيت أهلها معززة مكرمة مصونة محفوظة خير من أن تتزوج برجل لا يصلي أو فاسدٍ في دينه وأمانته مرتكبٍ للموبقات والكبائر مجاهرٍ بها.
ومن العظائم إجبار الفتاة على رجل لا تريده، أو تزويجها بغير إذنها، فمن الواجب أخذ رأيها فيمن تقدّم إليها، وموافقتها على ذلك أو رفضها. فهذا من حقوقها التي أعطاها إياه رسول الله .
ومن المنكرات دخول الزوج على زوجته أمام النساء الأجنبيات، فهذه الظاهرة وإن كانت قد تلاشت كثيرًا إلا أنها قد بدأت في الظهور والانتشار، وهو منكر عظيم، أن يدخل الرجل على النساء وقد يدخل معه بعض أقارب الزوجة أو إخوانها، وقد تُلتقط لهم الصور التذكارية والعياذ بالله، يدخل على النساء وهن في كامل زينتهن، ومَنْ فيها حياء قد تتغطّى أثناء دخوله. فأي منكر أعظم من هذا؟! وأي وقاحة وسوء أدب وقلّة غيرة واعتداء على أعراض المسلمين واستهانة بها أكثر من هذا؟!
ومن المنكرات المبالغة من النساء في ثوب الزفاف الذي قد يصل سعره إلى عشرات الآلاف، كل ذلك مفاخرة وشهرة وإسراف وتبذير، والنبي يقول: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)).
ومما يترتب على هذا الثوب أن بعض النساء لكبر حجمه لا تستطيع أن تلبس العباءة فوقه، فتخرج من الزفاف لتركب مع زوجها بلا عباءة، وبحجّة أن السيارة مُستّرة والزجاج مغطّى! فأين الستر والحياء؟! وأين الحشمة والفضيلة التي تربّت عليها هذه الفتاة؟!
ومن العادات القبيحة اتّباع الزوج وزوجته وهما خارجان من القصر بموكبٍ من السيارات مع تصفيق وغناء وضرب لمنبهات السيارات في أوقات متأخرة من الليل والناس نيام، وأحيانًا مع أذان الفجر، أو أثناء صلاة الفجر والعياذ بالله، وصدق المصطفى : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ومن المنكرات الظاهرة وجود التصوير إما بالفيديو أو الكاميرات العادية، فكم جرّت هذه الصور والأفلام من مصائب وآفات، وكم أفسدت من أسر وبيوت، وكم تسببت في طلاق وشقاق وفراق، وكم هُتك بسببها من ستر وعفاف وفضيلة.
ومن المنكرات العظيمة ـ وقد سبق الحديث عنها في جُمع ماضية ـ ظاهرة الأغاني وأشرطته والحكم فيها بين واضح، فالمباح المشروع لا يرفضه أحد، والمحرم الممنوع لا يبيحه أو يرضاه مسلم يخاف الله ويرجوه.
وللأسف فبعض الناس عن آيات الله معرضون، وللمحرم والمنكر مستمعون ممارسون، وكأنهم لا يسمعون ولا يعلمون ولا يعقلون ولا يفقهون، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9، 10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|