لكل أمة عظماء سطّر التاريخ مآثرهم ومجّد أعمالهم وخلّد جزءا من سيَرهم وحياتهم ليكونوا نبراسا لمن بعدهم في علمهم وجهادهم وأخلاقهم. ولقد اعتادت كثير من الأمم والمِلل إحياءَ ذكرى عظمائها، فيخصّصون يوما يوافق يوم مولدهم أو يوم وفاتهم لتذكير شعوبهم وأتباعهم بسير هؤلاء العظماء أملا أن لا يموت ذكرهم ولا تنسى أسماؤهم طوال العام.
ويمرّ على المسلمين في هذا الشهر شهر ربيع الأول ثلاثة أحداث مهمّة، هي مولد النبي وهجرته إلى المدينة ووفاته . ولا ريب أنّ كلاً منها كان حدثًا مهمًّا في حياة المسلمين، بل وفي حياة الثقلين أجمعين، يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
أيها الإخوة في الله، ففي شهر ربيع الأول ولد أفضل خلق الله في هذا الوجود، ولد الرسول العالمي والنبي الأمّي العربي محمد بن عبد الله ليكون خاتم النبيين وإماما للمتقين والرحمة المهداة للعالمين والحجة على الخلائق أجميعن، فشرفت به الأرض واستبشر به من وفّقه الله للهداية. اصطفاه الله وربّاه ليكون قدوة لهذه الأمة وبشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا، فبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجعلها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، حتى قال : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، فقالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري.
ولقد أوذي وعودي وضرب وجرِح وهو يدعو الناس إلى الله، وقال عنه الظالمون: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا. وما زال يتنزل عليه القرآن آية بعد آية وهو يرشد الأمة إلى أشرف مقصد وأسمى غاية فظهر الحقّ وزهق الباطل. وما إن استجاب العرب إلى نداء رسولهم حتى انتقلوا من حال خير من حالهم ومآل خير من مآلهم، فتحولوا من ضعف إلى قوة، ومن جهلاء إلى عُلَماء، ومن رعاة للغنم إلى قادةٍ للأمم. فلقد ألف بينهم هذا الرسول الكريم بعد أن كانوا أحزابا متناحرة وقبائل متعادية يأكل القوي منهم الضعيف، فجمع كلمتهم تحت راية الإسلام، وانتزع من قلوبهم الضغائن والأحقاد، فخرجوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فخرجت الدولة الإسلامية الكبرى التي غمر عدلها ونورها نصف الأرض، فهل يحتاج المسلمون إلى إحياء ذكرى ميلاد نبيهم محمد أسوة بما يفعَل بالعظماء على مرّ التاريخ؟
إن شأن رسول الله عند الله لعظيم، وإن قَدرَه لكريم، فلقد اختاره الله تعالى واصطفاه على جميع البشر وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين. وشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وأعلى له قدره، لهذا تكفّل الله عز وجل بإحياء اسم خليله محمّد على ألسنة أتباعه من المسلمين حتى إن المسلم ليردّد اسم نبيه محمد في اليوم والليلة أكثر من مائة وسبعين مرة.
وإذا علمنا أن أمّة الإسلام قد فاق عددها المليارَ وربع المليار فمعنى هذا أن اسم محمّد يذكر في اليوم والليلة أكثر من مائة وسبعين مليار مرة، والمليار يعدل ألف مليون. دعونا نجرِي حسبة بسيطة باستعراض ما يقوم به المسلم كل يوم من أذكار فيها ذكر نبينا محمد ، لندرك هل نحتاج إلى إحياء مولده .
لقد دعا الله عز وجل عباده المؤمنين إلى الصلاة على نبيّه محمد في مواضع كثيرة هي في بعضها واجبة وفي بعضها الآخر مستحبة، فالمسلم يذكر اسم نبيّه محمد ثمانيا وثلاثين مرة في الصلوات الخمس وذلك في التشهد الأول والثاني من كلّ صلاة، وخمس عشرة مرة في الأذان والإقامة، وعشر مرات في الدعاء عقب الأذان، وعشر مرات في دعاء الدخول إلى المسجد والخروج منه، وخمس مرات عقب الوضوء، وثمانيا وأربعين مرة في السنن الرواتب، واثنتي عشرة مرة في الشفع والوتر، وستا وثلاثين مرة ضمن أوراد الصباح و المساء، فهذه بعض المواطن التي يشرع فيها ذكر نبينا محمد والصلاة عليه كل يوم، والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وسبعين مرة. ولو اعتبرنا أن عدد المسلمين ليس مليار وربع المليار وإنما مليار واحد فقط فمعنى ذلك أن اسم محمد يذكر ويردّد في اليوم الواحد أكثر من مائة وسبعين مليار مرة، وهذا بغض النظر عن يوم الجمعة الذي أُمرنا فيه بالإكثار من الصلاة عليه ، فهل تجدون ملِكا أو رئيس دولة في العالم من يذكر اسمه بهذا العدد؟ ليس في اليوم الواحد، بل في العام الواحد؟ بل في عمر الزمان كله؟ هكذا رفع الله ذكر محمد وصدق الله حين قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وما ذلك إلا لنجعله أسوة لنا في كافة شؤون حياتنا، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
إن من أحبَّ النبي محمد واجبه أن يعمل بسنته المطهرة وأن ينشرها بين الناس ليزداد ذكر اسم النبي محمد . إن واجب المسلمين اليوم حكومات وشعوبا بمناسبة ذكرى مولد النبي أن يجددوا تأملهم في شخصية رسولهم وقدوتهم ويدرسوا سيرته ويتدبروا كلامه والقرآن الذي نزل عليه، وأن يتابعوا الطريقة التي بنى بها الأمة المسلمة، وأن يروا كيف ربى هذا النبي الكريم على تعاليم الإسلام جماعةً عاشت دهرا طويلا في أعماق الصحراء كانت منبوذة من بين الأمم، فإذا هي بالإسلام أرقى أمم الدنيا تقارع إمبراطورِيَتَي فارس والروم. وما ذاك إلا لأن سلف هذه الأمة جعلوا النبي قدوتهم في كلّ شيء ونبراسا لهم في كل طريق، فنصرهم الله على شياطينهم وعلى أهوائهم، فانتصروا بعد ذلك على أعدائهم.
أما في وقتنا المعاصر فقد استبدل كثير من الناس بقدوتهم وأسوتهم قدواتٍ زائفة لمعتهم بعض وسائل الإعلام المختلفة العربية والإسلامية، فسمّتهم نجومَ المجتمع وهم ليسوا أهلا لذلك، فقُلبت موازين الفضيلة عند كثير من الناس. وإذا أردت أن تتأكّد من ذلك فاسمع إلى أيّ مقابلة تجرَى مع فنان أو مغنٍّ أو ممثّل أو لاعب تجدهم يسألون هؤلاء أسئلة دقيقة عن حياتهم الشخصية كأنهم يقابلون أحد علماء الأمة وقدواتها فتراه يُسأل: من الذي هداك إلى هذا الفن؟ ومن قدوتك في عالم الفن؟ وما هوايتك المفضلة؟ وكيف تقضي إجازتك ووقت فراغك؟ وما اللون الذي تفضله؟ وما أجمل وردة تحبها؟ وما أفضل طبخة تأكلها؟ وما أحرج موقف مر بك في حياتك؟ وماذا تتمنى للشباب العربي؟ وغيرها من أسئلة لا تهمّ المسلمين ولا تحلّ قضاياهم، وإنما تزيدهم غفلة فوق غفلتهم ولهوا إلى لهوهم.
إننا نخطئ كثيرا في التعبير عن حبنا وتعظيمنا لرسولنا محمد ، فليس حبه بجعل يوم ميلاده عيدا رسميا أو فرحا شكليّا كما تفعله بعض الدول الإسلامية، إنما حبه يتمثل في امتثال أمره ونبذ كلّ ما يخالف شرعه، وأن يكون القدوة الحقيقية للمسلمين.
ها هي كثير من دول العالم الإسلامي قد جعلت يوم مولده إجازة رسمية تقام فيه احتفالات ومهرجانات زعما أنها تحيي بذلك ذكرى مولد النبي ، وفي المقابل تراها تجاهر بكبائر الذنوب ليل نهار وتحارب سنته وتسجن العلماء الذين يدعون إلى تعاليمه وترفض الاحتكام لشرعه وتحتكم بشرع غيره، فكيف يسوغ لهم أن يمدحوا ذات النبي ويذموا الشّرع الذي نزل عليه؟! إنها موازين مقلوبة.
إن الإيمان برسول الله وحبَه ليس مجرّد كلمات نردّدها ونتغنّى بها وننسج حوله القصائد والمدائح والأشعار ثم لا تتحوّل مقتضيات هذا الإيمان في حياتنا إلى واقع وسلوك. إن رسول الله لم يأمرنا أن نحتفل بيوم ميلاده تقليدا للنصارى، ولم يفعل ذلك من اختارهم الله لصحبة نبيه ولا العلماء الذين عاشوا في القرون المفضلة، وإنما أمرنا أن نطبّق المنهج الذي نزل عليه فقال جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها الإخوة في الله، لقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أنّ من رفع صوته فوق صوت النبي سيحبط عمله فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. إن مجرّد رفع الصوت على رسول الله يحبط العمل، فكيف بالذين يخالفون أمره بل ويحاربون أتباعه ويسخَرون منهم ويغيّرون أنظمة حكمهم إرضاء لأعدائهم؟! فماذا سيقول هؤلاء الناس لرسولهم يوم القيامة؟! وبأي وجه سيقابلونه؟!
ولقد أخبر الرسول عن هذا الموقف الرهيب الذي سيطرد فيه أناس من أمته عن حوض الكوثر فقال : ((إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس من دوني فأقول: يا رب، مني ومن أمتي! فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟! والله، ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) رواه البخاري.
اللهم إنا نعوذ بك أن نفتَن في ديننا أو نردّ على أعقابنا، اللهم اجعلنا من جنود نبينا محمد ، واجعلنا من أتباعه وممن يقتدون بسنته ولا يخالفون أمره، إنك أنت الرؤوف الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كلّ ذنب لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|