أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العزيز الحميد، فاتقوه حقّ تقاته، واحذروا بطشه الشديد، واعلموا أنه قد أحاط بكل شيء علمًا, فلازموا أدب العبد مع ربه.
عباد الله، يقول الله سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، إنّ حكمةَ الله اقتضت أن العبادَ ما عملوا عملاً على خلاف شرع الله إلا وعاقبهم من العقوبات في الدنيا ما يكون فيه اعتبارهم، وما من عقوبةٍ إلا وبينها وبين المعصية تناسبًا ظاهرًا أو باطنًا.
قوم سبأ أعطاهم الله الجنتين وطلب منهم أن يعبدوه ويشكروه، فلما عصوه وعاندوه عاقبهم بما كان نعمةً لهم في وقت من الأوقات، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]، ويقول الله عن قوم هود: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:24، 25].
عباد الله، المطر نعمة لا يعدلها نعمة، به حياة الأرض، وبه حياة الأبدان، إذا جاء المطر فرح به الناس حتى وإن كانوا في طرق معبدة وبيوت متقنة، وما ذاك إلا تيمّنًا منهم بما يعود به المطر من المعاني التي تصاحبه عند نزوله، ولهذا كان النبي إذا رأى سحابة احمر وجهه وتغيرت حاله، فإذا أمطرت السماء سرّي عنه، وقال: ((إن قومًا فرحوا بالسحاب فأصابهم ما أصابهم))، وإن حرمان البلدان من الأمطار ما هو إلا إنذار وتهديد من الله لعباده؛ ليعودوا إلى رشدهم وينظروا في أنفسهم، وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
عباد الله، يقول الرسول : ((خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن))، وذكر منهن: ((ولم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا)) رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي عن عبد الله بن عمر.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هذا التوافق، لمّا منع الناس إخراجَ ما بأيديهم من الزكاة منع الله القطرَ أن ينزل من السماء، وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16].
كثيرًا ما يستسقي الناس في خطبهم وفي صلواتهم فلا يسقون في الحال، بل ربما أقاموا صلاة الاستسقاء مرة بعد مرة، فلا يظهر لهم معالم استجابة، أفلا يكون هذا الأمر رادعًا لأصحاب الأموال أن يخرجوا ما بأيدهم؟!
أيها الناس، روى الإمام مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسقِ حديقة فلان، فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجةٌ من تلك الشراج قد استوعبَت ذلك الماء كلّه، فتتبَّع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه)). هذا ـ عبد الله ـ رجل عرف الله، فكافأه الله على فعله.
عباد الله، الزكاة حقّ افترضه الله للفقراء في أموال الأغنياء. الزكاة فريضة المال، أوجبها الله على من ملك نصابًا من الأموال، وله المنة سبحانه في ذلك عليهم، حيث وهبهم الكثير، وجعلهم أمناء عليه، ينفذون فيه أمره، ويتسابقون في دفع الحاجة عن عباده الفقراء، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
في إخراج الزكاة إخلاص العبودية لله سبحانه؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إفراد المعبود سبحانه بالعبادة، وإن من شروط الوفاء به أن لا يبقى للموحّد محبوب لذاته سوى الواحد الفرد، وإنما يمتحن المحبّ بتخلّيه عن محبوبة، والأموال محبوبة عند الخلائق؛ لأنها آلة تمتُّعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، ولهذا تجد المرء يفادي بنفسه وماله كل شيء؛ ولهذا امتحنهم الله بهما، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
روى الإمام أحمد والحاكم واللفظ له وصححه عن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله لأبايعه على الإسلام، فاشترط عليّ: ((تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وتصلي الخمس, وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة, وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله))، قال: قلت يا رسول الله، أمّا اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فما لي إلا عشر ذودٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهم، وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولّى في المعركة، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي، قال: فقبض الرسول الله يده ثم حركها، ثم قال: ((لا صدقةَ ولا جهاد، فبم تدخل الجنة؟!)) قال: ثم قلت: يا رسول الله، أبايعك عليهن، فبايعني عليهن كلّهن.
الزكاة ـ عباد الله ـ لا بد من إخراجها طيبةً بها نفس مخرجها، وينبغي أن يستصغرها؛ فإن من استعظم زكاته أعجِب بها، والعُجب من المهلكات، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25], ويقال: إن الطاعة كلما استصغِرت عظمت عند الله تعالى، والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله سبحانه. وقيل: "لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره وتعجيله وستره".
روى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كلّ عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ـ يعني رذائل المال ـ، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)).
ولقد كان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكّر، فلما قيل له قال: (أليس الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]؟! وإنّ أحبَّ ما أحِبّ السكر).
عباد الله، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا جاء رمضان خطب الناس وقال: (هذا شهر الزكاة، فأخرجوا فيه زكاة أموالكم).
أيها الناس، بذل المنفقين وإحسان المحسنين وسيلة من وسائل رضا رب العالمين، فبادروا بأعمالٍ علكم أن تلقوا بها مغفرة من ربكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
|