أيّها الناس، إنّ من يسبُر التاريخ الغابرَ والحاضر ببداهةِ فهمِه واتّزان نظرِه ويتعرّف على واقعِ الأمم السالفة والمجتمعاتِ الحاضِرة فلن يتطرّق إليه شكّ ألبتّة في وجود حقيقةٍ ثابتة ومبتغًى ينشدُه كلّ مجتمع وأسٍّ لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما توالت عليه العصور وعصفت به رياح الأيّام التي يداولها الله بين الناس، ألا وهو مطلب الأمن والأمان. الأمن الذي يهنأ فيه الطعام، ويسوغ فيه الشراب، ويكون فيه النهار معاشًا والنّوم سباتًا والليل لباسًا.
وإنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وإنّ غواسِقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِّ جانب، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخَذ، بل وتخطَّفتنا على غِرَّة كما تتخطَّف الزوابع نِثار الأرض. إنَّها لفتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولا، ذلكم الحليم الذي رُزق خَصلةً يحبُّها الله ورسوله، الحليمُ الذي إذا شُتِم صبر وإذا ضُرِب غفَر، إنّه ليُرى إبَّان هذه الفتن حيرانًا من هول الوقع وعِظَم الخطب. الفتن التي قال فيها المصطفى : ((ستكون فتنٌ؛ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه)).
أيّها المسلمون، لقد تكاثرت في هذه الآونةِ حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في المجتمع المسلم، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، ولقد أشار المسلم بالسِّلاح على أخيه المسلم، بل وأفرَغ حشوَه فيه، وهذا ما لا كُنّا نعهدُه في زمَن الاستقرار الوارف والطمأنينةِ التي عمَّت المجموع، فما الذي غيَّر الأمرَ عن مجراه؟ ولأيِّ شيء يختلف اليومُ عن الأمس؟!
وما حدث قبل أيام في مدينة الخبر هو مشهد من سلسلةِ مشاهد مروّعة انغمست فيها الأيدي الآثمة بدماء الأبرياء، لتسجّل في صفحات التاريخ أبشع معاني الغدر وانتهاك الحرمات وترويع الآمنين، فما أقساها من قلوبٍ تلكَ التي تُحاربُ إخوانًا لها، وتُكفّرُ رجالاً تعفّرتْ وجوههم بالسجودِ بينَ يدي اللهِ تباركَ وتعالى، أنفسٌ مؤمنةٌ، وقلوبٌ مُخبتةٌ، وجوارحُ متوضّئةٌ، أربابُ أسرٍ وآباءُ صبيةٍ صغارٍ، لا يُعرفُ لمَ قُتلوا، لكنَّ الشبهة َ توردُ المهلكةَ، حينَ تجعلُ من هذا المُسلمِ تِرسًا في وجهِ الهدفِ الموهومِ، فيجبُ قتلهُ ولو كانَ يُراوحُ بينَ جبهتهِ وركبتهِ للهِ تباركَ وتعالى، ودموعهُ تخضلُ لحيتهُ.
إنّها أحجية ُ القرنِ العشرينِ، ذلكَ الذي يجعلُ من الفتنةِ جِهادًا، ومن البغي فتحًا، ومن المُسلم ِ العابدِ للهِ كافرًا! بأيّ ذنب يقتَل الأطفال ومن يمسحُ البؤسَ والشقاءَ عن محيَّا آبائهم وذويهم؟! ومن يُعيدُ بهجةَ حياتِهم ومنتهى أحلامهم؟! إنَّ الحياة َ إنما تحلو بالبنينَ والبناتِ، فهم زهرة ُ الحياةِ الدنيا، وإنَّ أحدنا لو هبّتِ الريحُ على أحدِ بنيهِ لباتَ يتململُ ليلَهُ ونهارهُ، فكيفَ إذا روّعَ فيهِ بالقتلِ من شخص ٍ مسلمٍ تحتَ ذريعةِ الجهادِ؟! وقد لعنَ النبيُّ صلّى اللهِ وعليهِ وآلهِ وسلّمَ من روّعَ كافرًا في ولدهِ، وذلكَ بإبعادهِ عنهُ في السبي والغنيمةِ، فكيفَ بمن يستبيحُ دمهُ من المُسلمينَ، ويُسقطُ عصمتهُ بمبرراتٍ هي أوهى من بيتِ العنكبوتِ؟!
عباد الله، وكيف يستقيم هذا الإجرامُ مع قول ربِّنا الأعلى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! وأين من اجتَرأ على هذه الحُرُمات، أين هو من وصيَّة نبيِّ الرحمة والهدى الواردةِ في خطبته في حَجَّة الوداع وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((فإنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا ـ أي: البلد الحرام، أي: مكّة ـ، في شهركم هذا ـ أي: في شهر ذي الحجة ـ، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهَد، فلا ترجِعوا بعدي كفَّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيتُه لأمته: ((لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه؟! وإذا كان للعقلاءِ مِن تمام الحِرص على إنفاذ وصايا موتاهم ما هو معلوم مشهورٌ، فكيف بوصيّة هذا النبيِّ الذي وصفه ربُّه سبحانه بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]؟! أفلا تستحقُّ وصيَّته الرعايةَ والعِناية والعملَ بما جاء فيها؟! بل أليست هذه الوصيةُ دينًا نتعبَّد اللهَ به لأنّه سبحانه أمرنا بذلك بقوله عزّ اسمُه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟! ثمَّ مَن المنتفِع بهذه الأعمال على الحقيقة؟! أهم المسلمون أم الأعداء؟! وهل حقَّقت لأصحابها شيئًا؟! وكيف يرتضي عاقلٌ لنفسِه أن ينقلِب إلى أداةٍ في يدِ أعدائه وأعداء بلدِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون، وهم موفورون لم يمسسهم سوء؟!
عبادَ الله، إنَّ على كلِّ مؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه أن يرفعَ صوتَه بإنكار هذه الأعمال الإجراميّة لأنها محرَّمةٌ بنصوص الكتاب والسنة، ولأنها تعدٍّ لحدود الله وانتهاك لحرماته وعُدوان على عباده، ولأنها فسادٌ نهى الله عنه وأخبرَ أنّه لا يحبُّه، وأنه لا يُصلِح عملَ المفسدين.
|