أما بعد: فعندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرأ على غزو ديارها، وإن كلاب الأمم بعامّة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر، ولا يردعها سوى لغة: ((خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم))، ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:38]، ولا يقطع دابرها سوى مقولة: ((مَنْ لِكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله)) رواه البخاري، ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه).
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد، يومّ أطلقها مُدوّية من بغداد. لقد تجرأ نقفور ملك الروم، فكتب ـ مُجرّد كِتابة! ـ إلى هارون ملك العرَب: "أما بعد: فإن الملِكة التي كانت قبلي أقامتك مقامَ الرُّخ، وأقامت نفسها مقام البيدَق، فحملت إليك من أموالها، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأتَ كتابي فاردُد ما حصل قبلَك، وافتدِ نفسَك، وإلا فالسيف بيننا". فلمّا قرأ هارون الرشيد الكتاب اشتدّ غضبه، وتفرّق جلساؤه، خوفًا من بادِرة تقَع منه، ثم كتَب بيدِه على ظهرِ الكتاب: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه". ثم ركب من يومِه، وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاًّ وبلاءً، فقتل وسبى وذلّ نقفور، وطلب نقفور الموادعَة على خراج يؤدّيه إليه في كلّ سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
لله درك يا هارون الرشيد، والله إنّ الأمة بحاجة إلى مُخاطبة طاغيةِ الروم اليومَ بهذا الخطاب وبهذه القوّة وبهذه اللغة، وكم هو والله بحاجة إلى أن يُعرَّف قدرَه.
يـا ألفَ مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنـا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي، فهل منكـم أبيٌّ يثأرُ
يتقاسم الأعداء أوطـاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمـي ألا تـرى شعبًا يُبـاد وبالقذائـف يُقبرُ
أين العدالة أم شعـار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يسترُ
مادام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حلّ إلا قولهـم: نستنكـرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الجـراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمـي رُبى أوطاننـا إلا الجهـادُ ومصحف يتقدّر
عباد الله، آن لنا أن نخاطب إخواننا الصامدين الثابتين الرابضين في الخنادق أمام الزحف الصليبي اليهودي الحاقد، فهذه نداءات يطلقها إخوان لكم من قلوب تحترق لما ترى من تكالب أعداء الله عليكم وعظيم ما وقع عليكم من ظلم، وهي تعيش شعوركم، وتحسّ إحساسكم كغيرهم من آلاف الملايين، تحترق قلوبهم لما يجري لكم، وترقص طربًا لبطولاتكم وثباتكـم، عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129].
يا أهل العراق، يا أهل الرافدين، يا أهل الكوفة والبصرة، يا أهل بغداد، يا دار الخلافة ومنبت العلم والعلماء والفقه والفقهاء والحكمة والحكماء، بلد أمير المؤمنين الرشيد وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل والقائد المظفر المثنى بن حارثة، أنتم الآن رمز الأمة وحملة لواء بطولاتها فلا تخذلوها. الله الله، لا تبتغوا بإسلامكم بديلاً، فهو سرّ عزتكم وكرامتكم، ما عُرفت بلادكم بحضارة آشور ولا بابل، ولكن بحضارة الدين والإسلام، ولا استمدت إمامتها من حمورابي ولا بختنصر، ولكن من خلفاء الإسلام وأئمة الدين. فالله الله، ارفعوا لواء الجهاد وهوية الإسلام، وأخلصوا الدين لله، وتبرؤوا من كل راية جاهلية؛ قومية وبعثيّة وقَبَلية، واجعلوها جهادًا صادقًا ناصعًا، بعد تصحيح الاعتقاد وتحكيم الشريعة، حتى يكون قتيلكم شهيدًا وتليدكم عزيزًا.
يا أهل العراق، أيها الصامدون، صبرًا صبرًا في مواجهة الزحف الصليبي، فإنما الشجاعة صبر ساعة، والمهزوم من يئن أولاً. تذكروا أسلافكم المجاهدين أهل القادسية والجسر والمعارك الفاصلة، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ [البقرة:249].
في دياركم وأراضيكم سقط العرش الكسرويّ، ودمّر البيت الأبيض إيوان كسرى، قال : ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيض الأبيض بيت كسرى)) رواه مسلم، فعسى أن يكون على أيديكم سقوط البيت الأبيض إيوان الطاغية. ومن دياركم انطلقت ألوية فتح الهند والسند والصين والروس.
أيها الصامدون، تذكّروا الشعوب الصامدة التي قاتلت حتى آخر قطرة دم، ووقفت في وجه الاستعمار حتى آخر رجل، تذكروا أهل فيتنام الذين ذهبوا مثلاً خالدًا في تاريخ البطولة والتضحية، ودنّسوا وجه أمريكا القبيح، فلا يكن الكافرون أشدَّ وأقوى منكم بأسًا، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَاء ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]. لا يكن الروس الملاحِدة أقوى منكم بأسًا حينما سطروا بطولات خارقة، وقاتلوا هِتلر قتالَ المدن على خرائب "ليننغراد" وعلى أطلال "ستالين غراد" وغيرها، أبَوا على الغزاة الألمان، وصمدوا شهورًا وسنين، وتحملوا أعنف قصفٍ جويّ ومدفعي عرفته البشرية إلى ذلك الوقت، وقاتلوا فرق الإنزال، وحصدوا فرق الصاعقة والكوماندوز، حتى هزموا الألمان هزيمة منكرة، وحطموا جيشهم الذي كان عداده بالملايين. تذكّروا تضحياتهم، بل تذكروا تضحياتِ إخوانكم الأفغان، وخوضهم غمارَ حرب، واجهوا فيها بالبنادق أقوى جبروت عسكريّ مجهَّز بكلّ الطائرات والصواريخ والمدافع، حتى هزموا الروس، وكان على أيديهم تفكّكه.
صبرًا يا أيها العراقيون المسلمون، لا يكن هؤلاء الصليبيون العلوج أشدّ بأسًا منكم، فإنما هم لفيف من اللقطاء والبغايا، وها هم يهاجمونكم ـ يا أحفاد الصحابة والعرب الأباة ـ في عقر داركم، وعلى مرأى ومسمع من العالم، فلا يكن النساء الفاجرات وأولاد العلوج أشدّ منكم بأسًا.
إياكم أن تتراجعوا في وجوه نساء الغرب، إنها سبّة التاريخ ووصمة العار، قاتلوا حتى النهاية، فإمّا الفوز وإما الشهادة.
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
أيها المجاهدون في العراق، اعلموا أن قضيتكم عادلة، وأنتم مظلومون معتدى عليكم في دياركم، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بِغَيْرِ حَقّ [الحج:39، 40]، وكل هذه الصفات محقّقة فيكم، قوتِلتم وظُلمتم، وأراد الغزاة إخراجَكم من دياركم وسلب أموالكم وبترولكم، فلا تكونوا عبيدًا للغرب، اثبتوا واصبروا إن الله يحب الصابرين.
واعلموا أن أمريكا غاشمة ظالمة، مستبدّة متكبرة، مغرورة بقوتها، ظانّة أن لا غالبَ لها، وهذه أمارات الزوال والهزيمة، وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَـٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، فعسى أن يكون موعد هلاكهم على أيديكم وفي دياركم، وقال تعالى: وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاء ٱلنَّاسِ [الأنفال:47]، وقال تعالى: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ [القصص:76]، وقال سبحانه: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، فأمريكا مكروهة مبغوضة لله بتكبّرها وغطرستها وظلمها.
واحرصوا أنتم على أسباب محبّة الله لكم، بتحكيمكم شرعَه واتباع هديِ رسوله والمحافظة على الطاعة وترك المعصية ورفع راية الجهاد الخالص والاجتماع وترك الفرقة، حتى يكون النصر حليفَكم لمحبة الله إياكم إذا حققتم أسبابها، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ [الصف:4].
يا أهل العراق، أعلنوها إسلامــية خالصة جامعـة، وتبرؤوا من كل عصبيـة سوى الإسلام، كالبعثية والاشتراكية وغيرها، لتلتئم حولكم الشعوب، وتهوي إليكم القلوب، وتُرضوا علاّم الغيوب، فاتقوا الله واجعلوه جهادًا في سبيله لإعلاء كلمة الله تعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|