أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله رغبكم في التوبة فقال: وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفًا [النساء:27، 28].
ففي هذه الآية يقرر المولى تبارك وتعالى ضعف الإنسان؛ فهو ضعيف في نشأته، خلقه من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ضعيف في علمه، وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، لا يعلم الغيب حتى فيما يخصه، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. ضعيف في إدراكه، فقد يرى الضارّ نافعًا والنافع ضارًا، ولا يدرك نتائج تصرفاته وأعماله، فمن أجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب لهداية العباد والأخذ بهم إلى سواء الصراط، ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، تحكمهم شريعة الله، حماية لهم من نظُمٍ من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلافات، فجاءت الشريعة الغراء منظمة للناس، ليس في العبادة فحسب، ولكن في العبادات والمعاملات والآداب، فكانت أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد، وذلك على مر العصور وتعاقب الدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع لتكون للخلق كافة منهجًا للحياة شاملاً.
ومع ذلك فلقد ضلّ أقوام عن الحق حيث زعموا أن الشريعة إنما تنظم العبادات والأخلاق، ولا شأن لها في أمور الحياة المادية والسياسية، فاتبعوا أهواءهم، وتنكّبوا الصراط، وسنّوا لأنفسهم قوانين من وضع البشر، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ [المائدة:44]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، فضلوا وأضلوا، وعموا وتعاموا عن نصوص كثيرة جاءت لتنظيم المعاملات في كتاب الله وسنة رسوله ، بل إن أطول آية في كتاب الله كانت في المعاملات في البيع والشراء الحاضر والمؤجل، وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن، فالشريعة كما تنظم العبادات فقد نظمت المعاملات، فكما أن في العبادات أمرا ونهيًا ووعدا ووعيدًا وترغيبًا وترهيبا، فكذلك الحال في المعاملات: وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35]، وقال تعالى: وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ [المطففين:1].
فكما أن المسلم مأمور أن يلتزم في عبادته ولا يتجاوز ما حدّه الله له، فكذلك هو مأمور بعدم التقصير ومجاوزة الحد في المعاملات؛ لأن ذلك كلّه من عند الله جاءت به شريعته التي رضيها لنا سبحانه، فكما أننا مسؤولون عن عباداتنا فإننا مسؤولون عن معاملاتنا، فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6، 7].
إن من رضي بالله ربًا فلا عذرَ له في أن يؤمن لبعض الكتاب ويكفر ببعض، يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، فقد وصف الله من هذا حاله فقال: أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء:151]
عباد الله، وإن من أخطر الأمور تهافت الناس على الدنيا وأخذها من حلها ومن غير حلها، وأصبح همّ الواحد الحصول على المال، لا يبالي أمن حلال هو أم من حرام، همّه أن يكون من الأثرياء، فضلّ بذلك عن الهدى واتبع الهوى، أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22].
يقول الرسول : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه))، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: ((غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)) أخرجه الإمام أحمد في المسند. إن في هذا الحديث لعبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن كثرة الدنيا وتنعّم العبد فيها ليس علامة على أنّ الله يحبه: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ [التوبة:55]، وقال عن قارون: فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـٰرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلصَّـٰبِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:79-83]، فصار المال وبالاً عليه: وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
وجاء في الصحيحين قال : ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)).
لقد برهنت الوقائع ـ يا عباد الله ـ صدقَ كلام رسول الله ، فها نحن نشاهد من يكتسب المال بالطرق المحرمة، قد ملأ الطمع صدره، وأحرق نفسه، وتلبس بالشح والبخل، أيديهم مملوءة وقلوبهم خاوية، يقول عنهم الناس: أغنياء وهم أشدّ طلبًا للمال من الفقراء؛ لأنهم ـ كما جاء في الحديث ـ كالذي يأكل ولا يشبع، فمن وقع في الربا لا تكاد تجده يتوب منه ولا يفتر في طلبه. والذي يأكل أموال الناس بالباطل قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، لا يرعوي عن حيلة ولا يتوانى في مكيدة. نرى من يتعامل بالغش والتغرير والتدليس على عباد الله. نسمع عمن يأخذ الرشوة على واجبات أنيطت به. نرى من يربح من وراء الطرق الملتوية في المساهمات العقارية وغيرها، لا يتورعون عن الكسب بهذه الطرق المحرمة. نرى من لا يعطي الأجير أجرته ويبخسه حقه.
فكيف يليق ـ يا عباد الله ـ بمن آمن بالله ربًا وبمحمد نبيًا وبالإسلام دينًا ،كيف يليق به وهو يعلم ما يترتب على ذلك من عقوبات ونتائج وخيمة في الدنيا قبل الآخرة؟! كيف يسعى لكسب المال من طريق حرام؟! كيف يرضى أن يخسر دينه ويبيعه بدراهم معدودة؟! أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86].
يجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة، ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق حرام هدم للدين والدنيا؟! الحلال بيّن، والحرام بيّن مهما تأوّل المتأوّلون ممن يلفّقون بين الفتاوى ويلوون أعناق النصوص. الإثم ما حاك في صدرك وتردّد وإن أفتاك الناس وأفتوك.
فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين.
وفقنا الله وإياكم للبصيرة في دينه والعمل بما يرضيه، وحمانا من أسباب سخطه ومعاقبه، وغفر لنا ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
|