أما بعد: فاتَّقوا الله تعالى حقّ التقوى، فمن اتقى الله تعالى وقاه، ومن عصى ربّه فقد اتخذَ الشيطان مولاه.
عبادَ الله، إنَّ دينَ المؤمن أحبّ إليه من نفسِه وأهلِه وقراباتِه، وإنّما يكون الدّين مع جماعةِ المسلمين، والجماعة لا تكون إلا بإمارةٍ وطاعة، وبهذا كلِّه تستقيم أمور الناس الدينيّة والدنيوية وتنتظم مصالحهم، والإسلام قد أكّد على هذه المعاني الهامّة وعمّق في القلوب هذه الأصولَ النافعةَ العظيمةَ، فأمر بالاجتماعِ على الدين والائتلاف، ونهى عن الفرقةِ والاختلاف، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:2، 3]، وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
وهذه الوصايا والتوجيهاتُ الرّبانيّة نحن في أشدّ الحاجةِ إليها في كلّ وقت، ولكنّنا في هذا الوقت أكثرُ ضرورةً وحاجةً إلى الحفاظ على جماعة المسلمين وإلى درءِ الأخطارِ عن أمة الإسلام وإلى معالجةِ مشاكلِ المسلمين وإلى الدفاعِ عن قضايا الأمّة المصيريّة بلزومِ جماعةِ المسلمين والتمسّك بهدي سيّد المرسلين ، فإنّ أمّةَ الإسلام تمرّ بمرحلةٍ تاريخية لم تمرّ بمثلِها فيما مضى، وأمّة الإسلام مستهدَفَة بالغزوِ الفكريّ في دينها من أعداءِ الإسلام، ومستهدفة في أخلاقها، ومستهدفةٌ في شبابها ونسائها بجعلِ المرأةِ المسلمة كالكافرةِ في أخلاقها وعاداتها، ومستهدفة في مناهِج تعليمها، ومستهدفةٌ في استقرارها، ومحسودة على خيراتها، وانفتح على المسلمين أبوابُ فتنٍ من أعدائهم ومن داخل مجتمعات المسلمين بأيدي بعضِ المسلمين الذين انحرَف فكرُهم والعياذ بالله، وقد بيّن الله عاقبةَ التفرّق والاختلاف فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
وأعداء الإسلام لا يمكن أن يكونَ منهم إلا المبالغةُ في الإضرارِ بالإسلام والمسلمين والعنَتُ والمشقة والعداوة والشرّ بجميع أنواعه كما قال تعالى في كتابه العزيز: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، ويقول تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:8-10].
وإذا كان أعداءُ الإسلام لا يمكِن أن يكونَ منهم إلاّ المضرّة للإسلام والكيدُ بصورٍ شتى فإنّ الخارجين على جماعةِ المسلمين وتعاليمِ الإسلام بألسنَتهم أو بأقلامِهم أو بالسّيف ضررُهم على الإسلام والمسلمين كضَرَر الكفار أو أشدّ؛ لأنهم يحقِّقون أهدافًا يسعَى إليها أعداءُ الإسلام، شعُروا أو لم يشعروا، فهل يعِي هذه الحقائقَ أهلُ التفجير والتدمير؟! وهل يفقَه عواقبَ الأمور أهل التفجير والتدمير؟!
إنّ خروجَ هؤلاء على جماعة المسلمين يُضعِف جماعةَ المسلمين أن تقِف أمامَ التحدّياتِ التي تهدِّد دينها ومصالحَها وأمنَها واستقرارَها، ومَن خرجَ على جماعةِ المسلمين ووليِّ الأمر فقد أسلم قِيادَه للشيطان، وقد أغضب الرحمنَ؛ لأنه قد خرج من حِصنٍ أمين وترك الحِرزَ المكين، فجماعة المسلمين تحيطُ بهم عنايةُ الله تعالى ورحمته وحِفظه، وتنال مَن لزمَ الجماعةَ دعوةُ المسلمين وبركة اجتماعِهم، فالمصلي إذا قال: "السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين" نالت هذه الدعوةُ كلَّ عبد صالح في السماء والأرض، وإذا دعا المسلمون في مجتمَع عِباداتهم نالت كلَّ مَن كان من جماعة المسلمين، وهل مَن خرج على جماعةِ المسلمين بالسّيف عبدٌ صالح؟! وهل من أزهقَ الأنفسَ المحرّمة لديه رحمة بجماعة المسلمين؟! قال : ((المسلمُ من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرّم الله)). ومَن خرج على جماعةِ المسلمين هل يرضَى لنفسِه أن يحاربَ رايةَ "لا إله إلا الله محمّد رسول الله" التي هي مرفوعة على كلّ محكمةٍ ودائرةٍ في هذه البلاد.
إنّ لزومَ جماعة المسلمين والانضواءَ تحت ظلّهم والنصحَ لهم ورعايةَ حقوقهم وكفَّ الأذى عنهم نجاةٌ من شياطين الإنس والجنّ وطريقٌ مأمونُ العاقبة ونهج قويم، جاءت الآياتُ والأحاديث مأكِّدةً وملزِمة لذلك وداعيةً إلى الحفاظ على جماعة المسلمين، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن فارق الجماعةَ شبرًا فقد خلع رِبقة الإسلام من عُنقه)) رواه أبو داود، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَن عمِل لله في الجماعةِ فأصاب قَبِل الله منه، وإن أخطأ غفر له، ومن عمِل يبتغي الفرقةَ فأصاب لم يقبلِ الله منه، وإن أخطأ فليتبوّأ مقعدَه من النار)) رواه الطبراني والبزّار، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الشيطانَ ذئب الإنسان كذئبِ الغنم، يأخذ الشاةَ القاصية والنّاحية، فإياكم والشعابَ، وعليكم بالجماعة والعامّة والمسجد)) رواه أحمد والطبراني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((مَن خرج من الطاعةِ وفارق الجماعةَ فمات ماتَ ميتةً جاهليّة، ومن قاتل تحتَ راية عمّيّة يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبيّة أو ينصر عصبيّة فقُتِل فقِتلته جاهلية، ومن خرج على أمّتي يضرِب برّها وفاجرَها لا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي بعهدِ ذي عهد فليس منّي ولست منه)) رواه مسلم والنسائي، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((مَن خلع يدًا من طاعةٍ لقِي الله يومَ القيامةِ لا حجّةَ له، ومن ماتَ وليس في عُنقه بيعة ماتَ مِيتة جاهلية)) رواه مسلم، وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((لن تجتمعَ أمّتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله على الجماعة)) رواه الطبراني. والذنبُ يتعرَّض له كلُّ أحَد، وليس أحدٌ بمعصوم، وإنما المصيبةُ الإصرار على الجريمة والتمادي في الغيّ والمكابَرة عن قبولِ الحقّ والتعلُّق بسرابِ الأماني الباطِلة والفتاوى الجاهلة والتغرير بالنّفس فيما يعرِّض الإنسانَ للشّقاء والبَوار في دار القرار.
يا مَن خرجتُم على الجماعة، توبوا إلى الله تعالى، فإنّ اللهَ يقبل التوبةَ عن عبادِه ويعفو ويصفح، وعودوا إلى الحقّ، فإن الرجوعَ إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، وارجعوا إلى الصوابِ، ولم يكلِّفكم الله بطلبِ بابِ الرجوعِ والتوبةِ في شواهِق الجبال أو مغارات الأرض أو في السماءِ، إنما بابُ التوبة والعودةِ إلى الصواب أمام قدَميك في أيّ مكان أنت فيه، فما عليك إلاّ أن تمدَّ يديك لتلجَ فيه، وعند ذلك ستَرى طمأنينةَ التوبة ورَوحها والرحمة خيرًا من مخاوفِ الذنوب وعذابها، وما مِن مرتكبِ جريمة إلاَّ وتمرّ به فرصةُ الرجوع والتوبة، فإن اغتنمها نال حظّه وفائدتَه وخيرَه، وإن ضيَّعها ندم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة:115]، وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|