أما بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوى الله جلّ وعلا، فالتقوى رَوح الأرواح وحاديها إلى بلاد الأفراح وطُهرُ النفوس وقوتُ القلوب ومُبلِّغُها لرضا علاّم الغيوب وزادُ الضمائر، بها ترِقّ المشاعِر وتُقبَل الشعائر، وبها النجاةُ يومَ تُبلى السرائر، فاتقوا الله رحمكم الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها المسلمون، في ظلِّ الظروف العصيبةِ التي تعصِف بالأمة وفي خِضمّ المتغيِّرات المتسارعة والأحداث المتلاحقة التي يعيشها العالم اليومَ يتطلّع الغيورون بل والمنصفون في العالم إلى كلِّ ما يعزِّز فُرَصَ الأمن والاستقرار الدوليّ والرخاء والسلام العالمي الذي يشعِر الأفرادَ والمجتمعات بل الشعوبَ والأمم بالأمن والأمان والراحة والاطمئنان، ومن ثَمّ التعاون بشكلٍ متكامل في بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق النماء والتقدّم للبشرية، دون استعلاءٍ أو ظلم أو تسلُّط أو استغلال. وإنّ الغيورَ ليعتصِره الأسى وهو يرى العالمَ اليومَ يبدو في معظمِه ليس موقعًا للتضامُن والأمن في ظلّ تصفيةِ حساباتٍ أنانيّة ونظراتٍ مادّية بين عولمةٍ كاسحةٍ وتبعيّة فاضحةٍ وجهلٍ متفاقِم وفقر متعاظِم وظلمٍ مستَشرٍ وإرهابٍ مستفحِل وحروبٍ عرقية وتوازُنٍ دولي جائِر وهيمنةِ القوى الكبرى على كثيرٍ من مقدَّرات الأمم والشعوب، وهنا تتأكَّد أهمّية سيادةِ لغةِ الحوار وتغليب منطِق العقل والحكمة وتحقيق المصالح العليا للأمّة والحرص على استتباب الأمنِ والسلام باعتباره الوسيلةَ الناجعة لحلّ مختلِفِ القضايا العالمية والمشكلاتِ الدولية التي تعترِض سبيلَ إسعادِ البشرية.
ولذا فإنّ الحاجةَ ماسَّة إلى فهم الإسلام الحقِّ والجِدِّ في نشر مفاهيمِه الصحيحةِ وتقديمه للعالم بصورته المشرقة رحمةً وعدلاً وتسامُحًا وأمنًا، والتأكيد على أنه ليس عقيدةً متسلِّطة تفرض على العالم مفاهيمها ونُظُمها، خلافًا للدعاية المغرِضة والحملات المسعورةِ التي يُروَّج لها في بعض وسائل الإعلام العالمية، مستغلَّة ما يقوم به بعضُ المنتسبين إلى الإسلام من أعمالٍ إرهابية، وإنّ ذلك لا ينبغي أن يجرَّ أولي العقول والبصيرةِ وذوي الشرف والمروءة في العالم إلى تصديقِ تلك المقالات الرائجة، فالإسلام الحقُّ يحرِّمُ الأعمالَ الإجراميّة الإرهابية والأفعال التخريبيّة الإفساديّة، ويعدُّ من يقوم بها منحرِفًا عن الحقّ، خارجًا عن إطار الشريعة، مخالفًا للنظُم والأعراف والمجتمعات الإسلامية والإنسانية، والذين يقومون بها فئةٌ نَشاز في الأمة، لا يمثِّلون إلاّ فئةً قليلةً لا يؤبَه بها، ولكن مع شديد الأسف أنّ بعضَ وسائل الإعلام المعادِية ضخَّمت من شأنهم.
لقد قدّم هؤلاء للعالم صورةً قاتمة عن الإسلام وأهله، فهم ـ والله ـ لا للإسلام نصَروا، ولا للكفر كسَروا، لقد قدّموا لأعداء الأمّة خدماتٍ جُلَّى بأطباقٍٍ مُذهبَة، وضيّعوا على الأمة فُرصًا كبرى في الدعوة إلى دين الله، فكم تضرَّرت أعمالُ الدعوة والحِسبةَ وضُيِّقت المجالاتُ الخيرية والإغاثية، فهل نحن في شكِّ من ثوابتنا وقيمنا؟! كيف وقد تجرّأت بعضُ الأقلامِ الحاقدة ووسائلِ الإعلام المغرِضة على ثوابت الدين ومُثُل الأمة وقيَم المجتمع وأتيحَت الفرصة للناعقين النفعيّين الانتهازيّين المزايدين على الشريعةِ من ذوي القلوب المريضة والأهواء البغيضة، فأجلبوا بخيلهم ورجلِهم للاصطياد بالمياه العكِرة، تشويهًا لسُمعةِ الصالحين، وطعنًا في المتديِّنين، عبرَ أطروحاتٍ مغشوشة ومنتديات مشبوهة تهدِف إلى الإثارةِ والبَلبَلة، فزادوا مِن البلاءِ بلاءً، ومِن الفتَن فِتَنًا، وهذا شأنهم في الأزمات وديدنهم في الأحداثِ والملِمَّات.
ألا فليتَّق الله هؤلاء وأولئك، وليدرِكوا أنّ سفينةَ الأمّة قد تُغرَق بخرقِ الجافين كما تغرق بخرق الغالين، ودينُ الله وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
إخوةَ الإيمان، كم في الأحداثِ والأزماتِ من دروسٍ وعِبَر وعظات، تمحيصٌ وابتلاء، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1، 2]. في الأزماتِ يترسَّخ الإيمان وتتجلَّى عقيدة الإيمان بالقضاءِ والقدر، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، كما يظهرُ صدقُ التوكُّل على الله من التواكل على غيره. فيها استشعارُ وَحدة الأمة وتضامُنها وسقوط كلِّ الأقنِعة والشعارات، وتمييز الخبيث من الطيب، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]. وظهور خطر المنافقين والمارقين والمفسدين، وتجلِّي صدقِ العلماء الربانيّين والدعاة المخلصين الذين يمثِّلون صِمام الأمان في الأمّة وأطواق النجاة المهمّة في نوازلها المدلهمّة، وإتاحةُ الفرَص للمتفائلين العاملين، واستنهاضُ الهِمم لليائسين والمثبِّطين، فأمةُ الإسلام عبرَ تأريخها الطويل لا تعرف الوهَنَ والاستسلام، ولا تخضَع أمام الشراذِم والأقزام، ولا تستسلِم للحوادث والأزمات، بل سريعًا ما تنهَض من كبوَتها وتفيق من رقدَتها؛ لتحقِّقَ تفاعُلاً إيجابيًّا في خدمةِ قضايا الأمة بجميع جوانبِها عبرَ منهجيّة مدروسةٍ وتخطيطٍ محكَم سليم، يحقِّق المقاصدَ الشرعيّة ويُعلي الآدابَ المرعيّة ويُضيِّع الفرَصَ على الأعداء المتربِّصين والمتشفِّين المفسدين.
ألا ما أحوجَ الأمّة إلى استلهامِ الدروس والعِبر الناصعةِ من هذه الأحداثِ المعاصرة، مستشعرين نعمةَ الله علينا بهذا الدين القويمِ والأمن الراسِخ المتين الذي يحرِّم ويجرِّم قتلَ الأنفُس المعصومة، وينهى عن إلحاق الضّرر بالأبرياء، ويحضُّ على البناء والإعمار، ويحذِّر من التخريبِ والدمار والتعرُّض للأموال والحقوقِ والممتلكات الخاصّة والعامة بسوء، ويدعو بصوتٍ جَهوَريّ: إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام.
كتب الإحسانَ على كلّ شيء، ويحرّم الغدرَ والغيلة والمُثلة، خاصّةً في الرهائنِ والأسرى، ويعدّ ذلك ضربًا من الهمجيّة والوحشية المقيتة التي لا تقرّها الشرائعُ السماوية بلهَ المثل الإنسانية. فبأيّ كتابٍ أم بأيّة سنة، فبأي دين أم بأية مِلَّةٍ يجري ما نراه اليومَ ونسمعُه مِنِ استمرار المسلسَل التخريبّ وتجدُّد فصولِ المشهَد الإجراميّ، لا سيما في خير البقاعِ وأفضل الأصقاع بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فهي ليست بدعًا في تعرُّضها للعُنف والإرهاب، محسودةٌ في دينها وقيَمها، مستهدفةٌ في وَحدتها وأمنها واستقرارها، عبرَ تحدِّياتٍ وضغوطٍ خارجية وفِتنٍ إرهابية داخلية، يأتي في وسطها تربُّصاتُ أهل الزّيغ والفساد والضلال وتيّاراتُ الانفتاح والإباحية والانحلال، لتزيدَ الأمر ضِغثًا على أبالة بتطلُّعاتٍ انتهازيّة تروم نصيبَها من القَصعة وقسْمها من ميراثِ الأيتام على مآرِب اللئام، والتغرير ببعض أبنائها في حلقاتٍ جديدةٍ من مسلسَل التورُّط لخدمة أغراضٍ إرهابية خطيرة تخدم منظومةَ الأهداف الكالحة لأعداءِ الإسلام من حيث تشعُر أو لا تشعُر، فلا تحقِّق موقِفًا راجحًا ولا مكسَبًا رابحًا، مما يؤكِّد أهمّيّة الرجوع إلى علماءِ الأمة دونَ مجازفةٍ فرديّة أو آراء آحاديّة تقرِّر مصيرَ الأمة في أدقِّ الأمور وأخطرها، فهل يعي شبابُنا ويدرك أحبابُنا خطورةَ الأمر ويوقنوا أنّ وراءَ الأكمة ما وراءها، فيُولّوا حارَّها من تولَّى قارّها، ويحذروا من المجازفةِ في الأحكام والتكفير والجُرأة والمبادرَة بالعنفِ والتدمير والتقتيل والتفجير، ممّا لو عُرِض بعضُه على عمرَ رضي الله عنه لجمع له أهلَ بدر، ولو عرضَها على أهل بدرٍ لاشترطوا إجماعَ المهاجرين والأنصار، كيف لا وهي من ورطَات الأمورِ المتعلِّقة بالدماء والأموال والأعراض التي لا تخصّ قومًا دون غيرهم أو أبناءَ ملّةٍ دون من سواهم، ممّا هو من محكماتِ الشريعة ومسلَّمات العقول، ولا يجوز أن تهدَر أبدًا بمجرَّدِ شبهة أو تأويل أو سوء فهمٍ أو تبديل، يستوي في ذلك المسلمُ وغير المسلم ممّن دان للأمة بعهدٍ أو أمان أو ذمّة، فلا يُخفَرون في ذمّتهم، ولا يغدَرون في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
أمةَ الإسلام، إنّ لبلاد الحرمين المحروسةِ دَينًا في ذمّة كلّ مسلم يتوجّه إليها في صلاتِه وأداء مناسكِه ومسؤوليةً في عاتق كلِّ موحّدٍ ليظلَّ عينًا ساهرةً على أمنها واستقرارها، وإنّ كلّ مؤمنٍ يحمل بين جوانحه قلبًا مخلِصًا ناصِحًا للمسلمين ليغارُ على مكانتِها أن تهتزّ ومقدَّراتها وأمنِها أن تُبتزَّ، فأمنها أمنُ الدين، ووحدتُها وحدةُ جميع المسلمين، وقوّتُها في مواجهةِ التحدّيات قوةٌ لجميع المؤمنين، وهذه الأمورُ لا تقبَل المساوماتِ ولا تخضع للمزايدات، ولا تحتاج إلى مزيدِ تنظير أو عميق تفكير، وهي لذلك تتطلَّب من كلّ ذي مَسحةِ دين أو مَسكةِ عقل أو ذرّة مروءة وإنسانيّة أن يتبرّأ إلى الله من استباحةِ حِمى الحرمَين الشريفين، فأولى بالأمة ثمّ أولى لها، لا سيما أبناؤها والقاطنون على ثَراها أن يوفِّروا كلَّ قِطعة دِرهم وكلَّ قطرةِ دَم بل كلّ خفقةِ قلب وخلجةِ عقل لمواجهة الأخطار المحدِقة بها.
والدعوةُ موجَّهةٌ مِن منبر المسجد الحرام إلى كلّ المتورّطين في أعمالِ العُنفِ والإجرام أن يثمِّنوا مكرمةَ العفوِ وفرصةَ الأمان، وأن يستثمروا ويستفيدوا من مبادرةِ الحِلم والحكمةِ والمروءَة، وأن يرجعوا إلى جادّة الحقّ والصواب ولزوم الجماعة والإمامة، فالرّجوع إلى الحقّ خير من التمادِي في الباطل، وليتذكَّر هؤلاء أنّ أعمالهم تصبّ في مصلحة أعداءِ الدين والبلادِ والأمة، وليأخذوا العبرةَ من غيرهم، وليقرؤوا التاريخ.
فيا هؤلاء، إنّ الفرصة متاحةٌ ومواتِية، والوقتُ يمضي سريعًا، والعاقل من لا يشمَخ بأنفِه ويزهو بنفسه وشتطُّ في رأيه ويغرق في التحدّي والمثالية، بل يتّسم بالموضوعية والعقلانية، ليسعه ما وسِع جمهور المسلمين، ويملك قدرًا من الواقعيّة، فالوالد الرؤوم والأب المكلوم لا يسرُّه أبدًا أن يرَى أبناءَه مشرَّدين مطاردين، فاللهَ الله ـ يا أبناءنا ـ في استثمارِ الفرصةِ الأخيرةِ لمن ضلّ الطريق، لعلّه يتوب إلى رُشدِه ويقلِع عن غيِّه، وليعلمْ أنّ الشرعَ مَطهَرة ورحمة وخيرٌ ومغفِرة وحِكمته، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34].
إنّها أيدٍ حانية وقلوبٌ رحيمَة امتدّت إلى أبناءٍ غُرِّر بهم، خُئِلوا دُروعًا تُرَدُّ بها سِهامٌ مِن أعدائها، فصاروها ولكن سهامًا في فؤادها.
إنَّ المحبَّ لهؤلاء المشفقَ عليهم ليأمل أن يغلِّبوا العقل والرشدَ والحكمة، وأن تجدَ هذه الدعوة استجابةً سريعة حقنًا للدّماء ودرءًا للفتن وحفاظًا على الأمن واستقرارِ المجتمع وتحقيق المصالح ودَرء المفاسد عن البلاد والعباد، والله المسؤول أن يهديَ ضالَّ المسلمين إلى الحقّ، وأن يحفظَ هذه البلادَ وسائر بلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين وعدوان المعتَدين، وأن يديمَ عليها أمنَها وإيمانها، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
|