وبعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:138-141].
أيها المسلمون، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: انهزم أصحاب رسول الله يوم أُحد، فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيلٍ من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: ((اللهم لا يعلوَنّ علينا، اللهم لا قوّةَ لنا إلا بك، ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر))، فأنزل الله هذه الآيات، وثاب نفرٌ من المسلمين رماة وصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [محمد:35]، يعني الغالبين على الأعداء بعد غزوة أحد.
وفي هذا القول بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، حيث قال لموسى عليه السلام: إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، وقال لهذه الأمة: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ.
أيها المؤمنون، أيها المرابطون، يجيء هذا التوجيه الرباني ليعالج ويواجه الوهن والحزن اللذين يساوران المكث في هذا المقام، يواجههما بالاستعلاء والاعتزاز، لا بمجرد الصبر والثبات، الاستعلاء الذي ينظر من علٍ إلى القوة الطاغية المتجبرة والقيم السائدة والتقاليد والعادات والجماهير المتجمهرة على الضلال.
أيها المسلمون، إن المؤمن هو الأعلى، الأعلى سندًا ومصدرًا، وهو الأعلى ضميرًا وشعورًا وخلقًا وسلوكًا، لأن عقيدته في الله هي بذاتها موحيةٌ بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى والعمل الصالح والخلافة الراشدة، فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة، الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها ومصائبها وحسراتها جميعًا، ويطمئن إليه ضمير المؤمن، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب، كما أن المؤمن هو الأعلى شريعةً ونظامًا.
وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديمًا وحديثًا، ويقيسه إلى شريعته ودينه، يراه كله أشبه بمحاولات الأطفال وخطى العميان، إلى جانب هذه الشريعة الغراء والنظام الكامل، وفي نفس الوقت سينظر إلى البشرية الضالة الحائرة من علٍ في عطفٍ وإشفاقٍ عليها، على بؤسها وشقائها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء والتكبر على الشقوة والضلال.
أيها المسلمون، وهكذا كانوا، المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء والشعارات البراقة والقوى المتجبرة المتسلّطة والاعتبارات التي تتعبّد الناسَ في الجاهلية، والجاهلية ليست كما يظن البعض أنها فترة من الزمان وقد انتهت، إنما هي حالةٌ من الحالات تتكرّر وتتجدّد في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.
نعم، هكذا وقف المغيرة بن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وتطوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور، عن أبي عثمان النهدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، وعبرها إلى أهل فارس، أجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئًا من شاراتهم تقويةً لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في غيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة، أي: على مسافة ثلاثمائة أو أربعمائة خطوة، لا يصل أحدٌ إلى صاحبهم حتى يمشي عليها، فأقبل المغيرة، وله أربع ضفائر، يمشي حتى جلس على سرير رستم ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه ومغثوه أي: صرعوه، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا، إلا أن يكون محاربًا لصاحبه، فظننتكم أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولا نصنعه، ولم آتيكم ولكن دعوتموني، اليوم علمتُ أن أمركم مضمحل أي: زائل، وأنكم مغلوبون.
أيها المسلمون، وتتبدّل الأحوال، ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره واعتقاده أنه الأعلى، وينظر إلى الآخرين من علٍ ما دام مؤمنًا، فيستيقن أنها فترةٌ وتمضي، وأن للإيمان كرةً لا مفرّ منها، فمهما كانت القاضية، فإنه لا يحني لها رأسًا، ولا يجامل ولا يساوم ولا يتنازل، المؤمن يصغي إلى نداء ربه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
كما ويقف المؤمن قابضًا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع البعيد عن الدين وعن الفضيلة وعن القيم العليا وعن كل ما هو طاهرٌ نظيفٌ جميل، ويقف الآخرون هازئين ساخرين بهذا المؤمن وعقيدته وقيمه، فلا يهن المؤمن، وهو ينظر من علٍ إلى هؤلاء الساخرين الضاحكين، وهو يقول كما قال واحدٌ من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان في الطريق الطويل، إنه نوح عليه السلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وهو يرى نهاية الموكب الوضيع ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29].
أيها المسلمون، إن المسلم على الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للضلال سلطانه وجبروته، ولتكن معه جموعه وجماهيره وحلفاؤه، إن هذا لا يغير من الحق شيئًا، فدولةُ الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فالمؤمنون دائمًا يتمثلون قول الحق جل وعلا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إننا لا نقف اليوم، ولن نقف إن شاء الله تعالى في يومٍ من الأيام موقف المدافع عن هذا الدين وكأنه في قفص الاتهام، فهو أسمى وأرفع من كل ذلك، وأبعد من أن توجه إليه التهم أو تثار حوله الشبهات، فحديثنا من منطلق بيان هدايته ومنهجه وطبيعته؛ لأنه دين الرحمة والعدل والأمن والسلام والطمأنينة، وإن المستقبل له بالرغم من كل المحاولات اليائسة للنيل منه أو لتشويه صورته وطمس معالمه وحضارته من قبل أعدائه، حسدًا من عند أنفسهم، وخوفًا على مبادئهم الهدامة ومعتقداتهم الزائفة وأفكارهم الشيطانية، أو النيل منه من قبل أتباعه الذين لا يفهمونه، وبالتالي لا يحسنون عرضه على الآخرين.
نعم، إن المستقبل والعلو لهذا الدين، إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، أيريد المشركون إطفاء نور الله وشرعه المنير بأفواههم؟! وهذا تهكّم بهم في إرادتهم إطفاء الإسلام بقولهم عن القرآن الكريم: إنه سحرٌ وشعرٌ وأساطير الأولين، واليوم يقولون عنه: إنه دين الإرهاب، سبحان الله! ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالشر والإلحاد يعودان من جديد، ولكن بثوبٍ آخر.
أيها المسلمون، وقد شبه الله تعالى من أراد إبطال هذا الدين أو الصدّ عنه بمن أراد إطفاء الشمس الساطعة بفمه الحقير، والله تعالى متمّ نوره أيّ مظهر دينه بنشره في الآفاق وإعلائه على كافة الأديان، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها))، والله تعالى سبحانه وتعالى سيعلي شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين المجرمين الحاقدين، فتاريخ الإسلام والمسلمين وما اشتمل عليه من نماذج العدل المشرقة ومن مبادئ حقوق الإنسان واضحٌ معلوم لدى القاصي والداني، ولدى العدوّ والصديق، كما أن تاريخ الآخرين بما اشتهر عليه من جرائم بشعة وأعمالٍ بربرية همجية يشيب لهولها الأطفال وتقشعر منها الأبدان معلومٌ أيضًا، ولم يعد سرًا يتكتم عليه، إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين.
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فرَج المستغفرين، استغفروا الله.
|