أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلالُه وهو أصدقُ القائلين: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
أيّها المسلِم، في هذِه الآيةِ بيانٌ لشرط صحّة العمَل، وأنّ العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا إذا اجتمَع فيه الأمران:
أولاً: أن يكونَ خالصًا لله، بأن يكونَ هدف العامِل مرضاة الله والتقرّبَ إليه، لا يكُن هدفه رياءً ولا سمعةً، لكن يريد به وجهَ الله والدار الآخرة، فكلّ عملٍ لم يخلِص فيه العامل عملَه لله فعملٌ مردود عليه، في الحديث يقول : ((قالَ الله: أنا أَغني الشركاءِ عن الشرك، مَن عمِل عملاً أشرَك معيَ فيه غيري تركتُه وشركَه))، وفي بعض الألفاظ: ((وأنا منه بريء)).
وثانيًا: أن يكونَ هذا العملُ على وفقِ شرعِ الله، أي: على ما دلّ عليه كتابُ الله وسنّة محمّد ، فإذا كان العمل لا دليلَ عليه من كتابٍ أو سنة وكان مخالفًا للحقّ فعملٌ مردود غير معتبر، وفي الحديثِ عنه قال: ((من أحدَث في أمرنا هَذا ما ليسَ منه فهو ردّ))، وفي لفظ: ((مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رد)).
أيّها المسلم، إنّ اللهَ جلّ وعلا ما خلَقنا عبثًا، وإنما خلَقنا لغايةٍ عظيمة؛ تحقيقنا لعبوديّة الله جلّ وعلا، وأرسلَ الرسلَ ليعرِّفوا الخلقَ بذلك، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
أيّها المسلم، قِف عند كلِّ عملٍ تريد عمَله، وأطِلِ الفكرَ والتأمُّل: هل هذا العملُ الذي تقدِم عليه عملٌ فيه مرضاةٌ لله أو عملٌ فيه سخَط وغضَب من الله؟ تأمّل قبل أن تعمل وفكِّر، واحذَر أن تكونَ أعمالك أعمالَ الخاسرين مِن حيث لا تشعُر، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
هؤلاء الخاسِرون حقًّا، عمِلوا أعمالاً وظنّوا أنهم على حقّ، وهم في الواقعِ على باطِلٍ وضلال، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. نعم، ضلَّ سعيهم لأنّ هذا العملَ على خلاف الحقّ، وعلى خلافِ الهدَى، وهم مع هذا يحسَبون أنهم يحسِنون صنعًا، فيعمَلون الباطلَ، ويستمرّون على الباطل، ويظنّون أنهم على حقّ، وهم في الواقِع على ضلال وخَطأ، وتلك عقوبةٌ من الله يعاقِب بها من صدَّ عن الحقّ وأعرضَ عن الهدَى، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]. زيِّن له الباطلُ فيراه حقًّا، زيِّن له المنكر فيراه مَعروفًا، زُيّن له القبيح فيراه حسَنًا، وتلك انتكاسةٌ في القلوب عياذًا بالله من ذلك.
أيّها المسلم، اعلَم أنّك جزء من أمّة الإسلام، وأنّ المؤمن حقًّا هو الغيورُ على دينِه، وهو الغيورُ على أمّته، وهو الذي يسعَى في إصلاحها، ويسعى في هدايتِها وتحقيق الخيرِ لها في العاجِل والآجل؛ ذلك أنه عضوٌ من هذه الأمة، يسرّه ما يفرِحهم، يحزِنه ما يسوؤهم، ولذا يقول : ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهَر)). أجل ذلك المسلم الغيور على دينه، يسعى في الإصلاحِ قدرَ مستطاعه، يهدي الضالَّ إلى الخير، ويعلِّم الجاهل، ويبصِّر الأعمى، ويهدي الأمّةَ إلى الطريق المستقيم. إن رأَى خطأً أصلحه، وإن رأى خيرًا شجَّع وأعان، فهو دائمًا يسعَى في إصلاحِ الأمّة ما وجَد لذلك سبيلا. من خُلقه أنه لا يرضَى بالأذى على الأمة، ولا يقرّ الشرَّ والضرَر عليها، ولا تؤتَى الأمة من قبله، بل هو يسعَى في الخير جهدَه، ويبذل جهدَه وغايتَه في إصلاح وضعِ أمته واطمئنانهم وتحقيقِ الخيرِ لهم، هكذا المؤمن حقًّا.
أيها المسلم، تمرّ بالأمّة محنٌ عظيمة ومصائب كثيرة وفتن متنوّعة، هذه المحنُ والمصائب والفِتن التي تمرّ بالأمة هي ابتلاءٌ وامتحان ليظهرَ موقفُ المؤمن الحقّ الذي يريد الخيرَ ويهدِف إليه، فموقفُ المؤمن حقًّا من هذه المحن والمصائب والفتن موقفُ المؤمن الغيورِ على دينه موقفٌ متميِّز واضح جلِيّ، موقفُ من يسعَى في الخير جهدَه، موقفُ من يحرِص على لمِّ الشعثِ وتوحيد الصفِّ وجمع الكلمة والبعد عن ما يسبِّب الشقاقَ والنزاع.
أيّها المسلم، إنّ موقفَك من هذه المحنِ والمصائب موقفُ المؤمنِ الغيورِ على دينه، موقفٌ لا تنطلي عليه الشرور، ولا يروج عليه الباطل، ولا يخدعه الخادعون، ولا يضلّهُ الغواةُ المجرمون، بل هو ثابتٌ على بصيرتِه، مستقيم على دينِه، لا تزعزِع إيمانَه كثرةُ المخالف والمنازع، بل كلّما اشتدَّتِ الفتن وعظُمت المصائب ازداد بصيرة في دينه وتميزًا للحقّ من الباطل والهدَى من الضلال.
أيّها المسلم، موقفك ـ أيّها المؤمن ـ موقفُ الصادقِ الموقِن الذي عرَف الحقَّ فاستقام عليه.
أخي المؤمن، غيرُ خافٍ على كلّ مؤمن أنَّ أمةَ الإسلام دائمًا مستهدفةٌ من قِبل أعدائها، مستهدفٌ دينُها، مستهدَف أمنُها، مستهدَفةٌ أخلاقُها وقيَمها، مستَهدَفة بلادُها وخيراتها، مستهدَف كلُّ خيرٍ ومنفعةٍ فيها، فالدِّين مستهدَف، والأمنُ مستهدَف، والخيرات مستهدَفة، والطُّمأنينةُ والاستِقرار مستهدَف؛ لأنّ أعداءَ الإسلام لا يريدون للأمّة أن تعيشَ على خيرٍ وطمأنينة، لا يريدون ذلك، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]. فهم لا يريدون للأمّة أن يستقرَّ لها قَرار، أو تهدأَ لها حال، أو تستقيمَ لها مَعيشة، هذا أمرٌ يغيض أعداءَ الإسلام، فكم كادوا للإسلام وأهله المكائدَ، وكم أوقعوا بها البلايا، وكم مزَّقوا شملَها، وكم أفقَروا بلادَها، وكم نهبوا خيراتها، وكم أحدَثوا فيها ما أحدَثوا، لكن للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من بلائهم ومصائبهم الذي عجِزوا أن يتمكَّنوا به بأنفسهم تمكَّنوا بواسطةِ بعضِ أفرادِ الأمة الذين خُدِعوا وغرِّر بهم وزيِّن لهم الباطِل فظنّوا أنهم على حقٍّ وهم على غير هدى.
أيّها المسلم، يا من ابتُليت بهذه الغوايات والضَّلالات، ويا مَن أصِبتَ بتلك المصائب فزاغ قلبُك عن الهدى والتبس عليك الحقُّ من الباطل، راجع نفسَك، وعد إلى رشدِك، وتُب إلى الله من زلَلِك وخطئك، فباب التوبة مفتوحٌ لمن تاب وأناب، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]. إيّاك وأن تستمرَّ في ضلالِك وتبقَى في غوايتك، فتُب إلى الله، واحذَر أن تلقى الله وأنتَ مستبيح لدمِ مسلمٍ أو ماله أو عرضه.
أيّها المسلم، ما موقفك ممَّن سفكوا الدماءَ بلا حقٍّ وقتلوا النفوسَ المعصومةَ بلا برهانٍ ولا حجة؟ وما موقفك من أولئك؟ إنّ الموقفَ الصادق من المؤمِن أن يعلنَ براءته من أولئك، وأنّ هذه الجرائمَ جرائمُ منكرة وجرائم خبيثة، تخالف الشرعَ والشرعُ ضدّها بكلّ حال؛ لأنها ظلم والظلمُ حرامٌ حرّمه الله على نفسه وحرّمه بين عباده. فليكُن موقفك ممن استباحوا الدماءَ بلا حقٍّ موقفًا تعتقِد خطأَ أولئك، وأنّ ما أتوه منكَر لا يمكن أن يقبَل، وليس أيّ تأويل مقبولا لذلك، بل هو خطأٌ مِن أوَّله إلى آخِره، فإنَّ من يريد الإصلاحَ والهدى لا يسلُك سبيلَ الظلم والإجرام، وإنما ينصَح ويوجِّه ويهدي، أمّا سفكُ الدماء والتعدِّي على النفوسِ المعصومة فذاك أمرٌ يرفضه الشرع، فنصوصُ القرآن والسنةِ تدلّ على فساده، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، في الحديثِ: ((مَن قتلَ معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)).
أيّها المسلم، موقفُك ممن يريدون أن يخلّوا بأمنِ الأمة ويسلبوا عنها تلك النعمةَ التي منَّ الله عليها بها ليكن موقفَ الحقّ أن تعلمَ أنّ من يريدون زعزعةَ أمن الأمة فإنما يريدون بها الشرَّ والبلاء، وليسوا على هدًى في تصرفّاتهم، بل هم على خطأ واضِح، ليكُن موقفك موقفًا واضحًا ممن يدمِّرون الممتلكات ويقضون على الخيرات، ليكن موقفُك ممن يحاوِلون تدميرَ اقتصادِ الأمة وإحداث البلبلة فيها والقضاء على كيانها وشَريان حياتها موقفَ المعادي لهم وأنهم لم يريدوا خيرًا ولم يقصدوا خيرًا.
ذلك ـ يا عباد الله ـ موقف المؤمن حقًّا، أن يحبَّ العدل ويرضى به، ويرفض الظلمَ ويأباه، ويعلم أنّ الظلمَ ظلمات يوم القيامة.
أيّها المسلم عليك أن تكونَ داعيًا إلى الله، مبصِّرًا لعباد الله، إن علمتَ من إنسانٍ شرًّا أو سمعتَ منه مقالاً سيّئًا عليكَ أن تبصِّر هذا المسلم، وأن تستنقِذَه من غوايته، وأن تأخذَ بيده، عسى أن يسمعَ قولَك، وعسى أن يصغي لنصيحتك، وعسى أن يتبيَّن له الرشد، فيرجِع عن ذلك الطغيان وعن الاستمرار في تلك الطرق السيّئة الملتوية.
يا أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ حقًّا يحرِص على حفظ الدماء والأموال والأعراض، ويحرِص على سلامة المجتمع المسلم وأمنه، ويحيطه بنصيحتِه وتوجيهه. هكذا المؤمن حقًّا، فلنكن جميعًا أعوانًا على البرّ والتقوى، لنستنقِذ بعضَ أفرادِ هذه الفئةِ الذين غرِّر بهم وزيِّن لهم الباطلُ، لندلَّهم على الحق ونأخذ بنواصيهم لما فيه صلاحُ الأمة وسلامتها، لنبيِّن لهم الأخطاءَ ونوضح لهم الضلال ونرشدهم إلى أن يكونوا حريصين على ما ينفعُهم في دينهم ودنياهم، فذا واجبٌ على المسلم؛ الآباء وغير الآباء، ليتعاون الجميعُ على الخير وفي سبيل إغلاق أسبابِ الشرّ والفتن، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بط، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولِسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|