أيها الناس، هذه طليعة أيام عامِنا الهجري الجديد، ها نحن نتفيأ ظلالها، وها هي تلبسنا من سنا ذكرياتها المشرقة أنوارا، إنها أيام تحكي الهجرةَ والتاريخ، هجرة النصر وتاريخ النصر، وما كان للنصر تاريخًا وهجرة إلا أن يسطّر أحداثه بمدادٍ من نور لتقرأه الأجيال عِطرًا لا يموت شذاه، ولا يجفّ نداه، تقرأه عزةً لا تذلّ، وقوةً لا تضعف، وعمرانًا لا يخرب، وشمسًا لا تغيب، وجمالاً لا يتشوّه على مر الدهور، وهكذا فكلّ شيء لله يبقى خالدًا وجميلاً، أين عشاق الخلود والجمال؟! أين عشاق العزة والبناء؟! أين عشاق السيادة والريادة؟! إن هلال الشهر الأول من عامنا الهجري وهو يبدو أمامنا على صفحة الكون العليا ليحملنا على جناحي العظة والعبرة وكأنه يقول لنا: أتيت شهيدًا كما مضى العام الراحل شهيدًا، وإنه كذلك ليعيدُنا إلى بدايات إشراقات تاريخنا كمسلمين، يعيدُنا إلى ما قبل اثنين وعشرين وأربعمائةٍ وألف عام، حين اشتدّت الوطأة الكافرة على المسلمين الأوائل. نعم إنه ليوقفنا على مشاهدِ مكة ودُورها وطرقاتِها وهي تخنق صوتَ الحق، وتمحو خطواته، وتضع العراقيل في طريقه، وتعذّب الركَّعَ السجود، ويوقفنا أيضًا على دَور عظيمِ الدنيا ومنقذ البشرية وزعيم الإنسانية محمدٍ وهو يفتح لأصحابه الأوفياء باب جهاد النفس الشاقّ هجرةً إلى الله، فتسيلُ بهم مساربُ مكة فارّين بدينهم من كيد الكائدين وظلم الظالمين، انطلقوا وكلّ منهم يحمل في صدره قوة جيش عرَمرَم بإيمانه العظيم، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
تركوا إذ خرجوا فلذات أكبادهم وكل أهليهم ودورهم وأموالهم، تجردوا من كل هذه العلاقات جميعًا وخرجوا، تجردوا من كل عواطفهم تجاه ما يتعلق بهم من متاع، وتعلقوا بالله وكفى، وزادُهم الإيمان وكفى، لسان حال كل منهم يقول لمولاه:
أرضى رضاك ولو أدّى إلى تلفي وكل ما في رضا الرحمن محبوب
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ... [القصص:5، 6].
إنّ هذه الأيام تذكّرنا الإمام عليه الصلاة والسلام وهو يؤكّد كل معاني الهجرة العظيمة، فيهاجرُ إلى حيثُ أذن له الله، وتكونُ الهجرة بذلك نصرًا لا يُهزم، وسيفًا لا يُثلَم، وخلودًا لا يهرَم، ومجدًا لا يُخرم، وتاريخًا بالخلود يتكلم، وبالحب والجمال يترنم، فكم تلا الـهجرة من فتح لله مبين، علت به أصوات المؤذنين تكبيرًا وتهليلاً في كلّ قطر رفرفت عليه لا إله إلا الله، سَعُدَتْ به دنيا الناس، واطمأنت قلوبهم، وتآخت أرواحهم، أخوة دينية صادقة جرت دماؤها في كل وجدان، وخفق بها منهم كل جنان، أخوّة ما رأت فرقًا بين القرشي والفارسي والرومي والحبشي، أخوة وحّدت الصف باتحاد الهدف، وسارت بهم في أرقى صورة، أخوة طردت بنصرها الهزيمة، وغسلت بعزها الذل، ومحت بشرفها العار، وشدّت بتكاتفها أزر القوة.
يا أخي في الهند أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري أو نسبي إنـه الإسلام أمي وأبـي
أيها المسلمون، ليس غريبًا أن يكون حدث هجرة النبي بداية وأساسًا للتاريخ الإسلامي باعتمادٍ موثق ممن هاجر لله علانية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن الغريب المؤسف المخجِل المبكي حقًا أن يتناسى ويتجاهل كثير من المسلمين تأريخهم ذلك، وكأنهم ليسوا من أتباع إمام المهاجرين محمدٍ .
أيها الناس، والله إن العين لتدمع ألمًا وأملاً وشوقًا وحنينًا ونحن نقلّب ونقرأ صفحات تاريخنا البيضاء وهي تحمل إلينا كالزهر شذى وعطرَ أصحابها من أسلافنا وآبائنا العظماء، وما قدّموه نصرةً لله وإعلاءً لكلمته، راضين بوعد الله لهم، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
أيها المسلمون، ولم لا تتقّطع القلوب أسًى ونحن نرى أعمارنا تنطوي؟! نقطع في كل يومٍ مرحلة ولم نقدم في خدمة العقيدة مثقال ذرة، ولم نُشهد أيامنا بشيءٍ من ذلك، ولم نسجّل تاريخنا بعد، وكأنه لا سباق لنا إلا في مجالات إشباع شهوات البطون والفروج، من أين لنا أيام نشتريها؟! من أين لنا لحظات نقتنيها؟! من يبيعنا شبابه؟! وهل لنا أن نشتري إذا قامت السوق؟!
مِن شباب المسلمين الأوائل من ابيضّت بأعمالهم صفحات تاريخهم، فمضوا عناوين للوفاء والحق، هذا قائد منهم للجيش وعمره سبعة عشر عامًا، وذاك تغسله الملائكة في صحاف الفضة بماء المزن بين السماوات والأرض، وذاك ترفعه الملائكة على سرير من ذهب، وذاك يهتزّ عرش الرحمن لموته، وذاك يرفض الولاية والإمارة زهدًا وخوفًا من الله، وذاك يموت في الأربعينات وله أكثرُ من خمسين مؤلّفًا في خدمة الإسلام، وغيرهم وغيرهم كثير. والكثير من المسلمين اليوم مع الأسف يتبارون في ميادين اللهو واللعب والانهماك في الدنيا وجمع الحطام، متنكرين لأمتهم، متناسين سرّ عظمتهم وخلودهم وسؤددهم، وجهُ أمتنا بهم مشوّه، وقلبها بهم جريح، وجسدها بهم ممزق، وعقد صفّها بهم منتثر، ما قدّموا لدينهم أو لأمتهم شيئًا، بل ما فكّروا أن يقدّموا، وكأنهم لا يعلمون أن أطفال أعدائهم فضلاً عن الكبار يتفنّنون بالنكاية بالمسلمين في أيّ مكانٍ أمكنت النكاية لمّا أصبحنا فعلاً أهون عليهم من الجعلان، ونحن في ليل غفلة لا يسمع ولا يرى ولا يتكلّم.
تعددت يا بني قـومي مصائبنا وأقفلت بابنا المفتـوح إقفالا
كنا نعالج جرحًا واحدًا فغدت جراحنا اليوم ألوانًا وأشكالا
أيها المسلمون، فليكن لنا من مرور الأيام والتاريخ اعتبار، يقول أحد العلماء: "إن المبادئ مهما كانت كريمة لا تنتصر وحدها، بل لا بد لها لكي تنتصر من جهادٍ مرير وكفاح شاقّ وعمل منظّم وتدبير محكَم، وعلى قدر ما تكون التضحيات يكون النصر، وبقدر ما تبذل تأخذ".
أيها الناس، إن الخطوة الأولى التي نتعلمها ونحن في طليعة عام هجري جديد أن نحيا أمناء على أيامنا، وأن نقتبس من أيام الضياء والألق والنور، وأن نهجر ما نهانا الله عنه، فإن فعلنا ألبسنا أنفسنا تيجان العزة دنيا وآخرة، والزمان شاهد، والعمر واحد، وبعد الحياة موت، والصدق مع الله يسجل تاريخ صاحبه بمداد الشرف.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
|