أما بعد: فيا عباد الله، ماذا جرى في دنيا المسلمين؟ لقد اجترأت الذئاب على الأسود، وديس عرين الأسد، عندما فرطنا في حقوق الله تبارك وتعالى، إن الله عز وجل عندما أراد أن ينصح الأمة وجّه لها ستة نداءات في سورة الأنفال، لو عملت الأمة بهذه النداءات الستة ما اجترأ علينا أحد، ولا استطاع سافل أن يرفع رأسه وأن يتجرأ على أحد من المسلمين، وقبل أن ينزل الله هذه النداءات الستة تبارك وتعالى في عليائه نادى على المؤمنين وأمرهم بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، أتعلمون لماذا أيها المؤمنون؟ لأن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى هذه النداءات الستة لنتعلم منها مرادَ الله تبارك وتعالى.
أما النداء الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15].
عباد الله، متى هزم جيش المسلمين؟ والله، ما هزم جيش المسلمين إلا بعد أن تخلينا عن دين الإسلام، فجيش الإسلام الذي خاض أصعب المواقف في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين للهجرة، وقف جيش الإسلام وليس معه إلا الله، وفي شهر رجب وبقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي وقف أمام ستة جيوش في أوروبا، أمام جيش إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وبلجيكا، وقف ثابتًا لا يتزعزع. وفي اليوم السابع والعشرين من رجب كان صلاح الدين يخطب على علياء هذا المنبر الشريف في رحاب المسجد الأقصى المبارك، بعد أن أسره الصليبيون إحدى وتسعين سنة.
إحدى وتسعون سنة قضاها المسجد الأقصى تحت ضربات الصليبيين، ودخل الفاتح صلاح الدين غداة إسراء الرسول ومعراجه إلى السماوات العلى، فحمد الله تبارك وتعالى، وسجد لله سجود شكر على هذه النعمة العظيمة.
عباد الله، متى هُزم جيش المسلمين؟! ومتى تجرأت الذئاب على أن ترفع رؤوسها في وجه المسلمين؟!
في سنة ست وخمسين وستمائة زحف التتار من مرتفعات منغوليا في الشرق الأوسط إلى أن استطاعوا أن يسقطوا الخلافة العباسية في بغداد، واستسلمت المدن السورية، وظل هولاكو يزحف بجيشه إلى حدود مصر وفلسطين، وأرسل إلى حاكم مصر إنذارًا شديد اللهجة قال فيه: "إذا قرأتَ رسالتي فسلِّم، فلو كنت معلّقًا في السماء لطرنا إليك أو لأنزلناك إلينا، جيوشنا دواسر، وخيولنا سواتر".
ولما وقع الإنذار في يد حاكم مصر آنذاك المظفر سيف الله قطز، أمسك الإنذار ومزقه، وقام فصلى ركعتين لله تبارك وتعالى، ثم كتب ردًا على هذا الإنذار، أتدرون ـ يا عباد الله ـ كيف كان الرد؟ هل كان الرد كما تعوّدنا من التهريج والكلام الفارغ؟ هل كان الرد: سنرميهم في البحر الأبيض، إذا لم يعجبهم البحر الأبيض فليشربوا من البحر الأحمر؟! وأنتم تعرفون أنهم ما شربوا من الأبيض ولا من الأحمر، وإنما نحن الذين شربنا من الماء الآسن أجلَّكم الله، لقد كان الرد كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]".
أتعرفون ـ يا عباد الله ـ من الذي قرأ هذا الرد؟ إنه سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فقد كان إمامًا ورعًا أمّارًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، إنه عَلم من أعلام الأمة الكبار، لا يعرف الاستغلال، كان نجمًا يضيء كما تضيء الشمس في رابعة النهار.
وبعد قراءة الردّ أعلن السلطان التعبئة في الأمة، وقاد الجيش إلى حدود فلسطين، ولما كان اليوم الخامس والعشرون من رمضان يوم جمعة قال قائد الجيش: لا نخوض المعركة حتى نصلّي الجمعة وندعو الله تبارك وتعالى بالنصر.
هكذا ينتصر جيش المسلمين، صلاة ودعاء، وطهر ونقاء، وتقوى وصفاء، لا نساء ولا خمر ولا ميسر ولا مخدرات ولا غناء ولا ليالي حمراء، لا نخوض المعركة حتى نصلي الجمعة.
وصلّى الجمعة، ودارت رحى الحرب، وكان الجيش قلبُه معلق بالله تبارك وتعالى، كان معتمدًا على الله، ما دام الجيش يقول: يا رب فلا بد أن يكون هناك مدد من الله، فجند الله تبارك وتعالى لا تحتاج إلى تدريب، صفوفهم ليست مخترقة، وهم على أُهبة الاستعداد التامّ لتنفيذ الأوامر الإلهية، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]، فجنود الله تبارك وتعالى موجودون، وهم على أتم الاستعداد أن ينزلوا إلى ساحة المعركة، والله حي لا يموت، متى شاء يصدر الأوامر إلى الملائكة الكرام لتخوض المعركة، ما دمنا نقول: يا الله، ما دمنا نقول: يا رب، ما دمنا صادقين مع الله.
وقُتِل هولاكو، وانكسر جناحه، وولى جنوده الأدبار أمام جيش الإسلام والمسلمين.
أما النداء الثاني يا عباد الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20].
النداء الثالث: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
النداء الرابع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
النداء الخامس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
النداء السادس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
نداءات لو عمل المسلمون بها ما حل بنا مثل الذي يحل بنا في هذه الأيام.
عباد الله، كيف كان المسلمون يتعاملون مع الأسرى؟ كيف تعامل المسلمون على مر الزمان مع أسراهم؟ هل أذاقوهم أصناف العذاب؟ هل مثّلوا بهم ومزّقوا أجسامهم؟ هل رأيتم الصور التي صوِّرت في تعذيب المسلمين على أيدي جنود مجرمين لا يعرفون للإنسانية معنًى؟
جاؤوا إلى ديار المسلمين لينشروا سمومهم، بلاد الإسلام بلاد طاهرة نقية، لا تعرف هذه المعاني التي جاؤوا بها.
لما انتهت معركة بدر جيء بسهيل بن عمرو، وكان يومها مشركًا، وأطلق النبي سراحه بعدما وقع في الأسر، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال له: من أين وإلى أين يا سهيل؟ قال له: يا عمر، لقد أطلق محمد سراحي، وأنا في طريقي إلى مكة، فأخذه عمر إلى رسول الله ، وقال عمر والغضب قد فعل بوجهه ما تفعل الشمس عن احمرارها: هل أطلقتَ سراح هذا يا رسول الله؟ قال له: ((نعم يا عمر))، قال: يا رسول الله، لا تطلق سراحه حتى أكسر له أسنانه التي في مقدمته، ((لماذا يا عمر؟)) قال: يا رسول الله، لكي لا يكون خطيبًا عليك يشتمك ساعة وساعة، وإذا ما كسرت له أسنانه وحاول أن يشتمك بعد اليوم اندلع لسانه من فمه، فلا يقوى على الكلام.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ كلام الرؤوف الرحيم الذي خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، عمر يطلب أن يسمح له بكسر أسنان رجل مشرك لأنه يسب الرسول ، وعمر لم يطلب قتله، إنما طلب كسر أسنانه، اسمعوا أيها المحتلون في أرض العراق، اسمعوا رأفة الإسلام ورحمة المسلمين بالأسرى والمعتقلين، ماذا قال نبي الإسلام ورسول البشرية أجمعين؟ قال له: ((يا عمر لا تمسسه بسوء، والله لا أمثل به، كي يمثل الله بي، ولو كنت نبيا)).
عباد الله، إن حزننا شديد على أمة الإسلام لأنها تحولت إلى أمة كلام، حكامهم يحكمون بالنار والحديد، مواقفهم سلبية، يبيعون الكلام بيعًا، أين موقف الأمة مما حصل في غزة ورفح وحي الزيتون؟
الدولة الفلانية تأسف لما حدث، وتلك تعرب عن أسفها، والأخرى حزينة، وهذه تسجل بمداد الأسى والأسف، قوم يطلقون النار والصواريخ، وينسفون البيوت، ويشردون الآلاف، وقوم يتكلمون بلغة المداد.
وأنتم ـ يا أمتنا ـ في مشارق الأرض ومغاربها، الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، ويقول كذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وصدق نبينا وهو يقول: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا ووصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه))، أو كما قال.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
|