أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، مع أن ابن تيمية رحمه الله قد حقق مقولته الرائعة: "المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه"؛ حيث سُجن سبع مرات، وتعرّض لصنوف شتى من البلاء والمحن، وكان في السجن أسعدَ الناس قلبًا وأهنأهم عيشًا؛ مع ذلك كله فقد سعى سعيًا حثيثًا في فكّ أسرى المسلمين واستنقاذهم، فخرج في شهر رجب سنة 699هـ إلى مخيم بولاي أحد قادة التتار، واجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وكتب رسالة مطولّة إلى ملك قبرص أحد ملوك النصارى في شأن أسرى المسلمين عند ذلك الملك، ضمَّنها الدعوةَ إلى دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأنكر عليه المعاملة السيئة لأولئك الأسرى، وتوعده بقوله: "ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية الذين يغتالون الملوك على فُرُشها مَن قد بلغ الملكَ خبرُهم قديمًا وحديثًا، وفيهم الصالحون الذين لا يرد الله دعواتهم ولا يخيب طلباتهم، الذين يغضب الرب لغضبهم ويرضى لرضاهم"، "فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته ينتقم لهم رب العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم، وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حمية إسلامهم فينالون منها ما نالوا من غيرها؟!".
إخوة الإسلام، ومع تعدد أوجه التشابه بين أحوال المسلمين في القرن الثامن الهجري (عصر ابن تيمية) وبين أحوال المسلمين اليوم إلا أن الحالة اليوم تبدو بالغةَ التعقيد، ففي كل صقع أسرى للمسلمين، فهؤلاء أسرى المجاهدين بكوبا (جوانتانامو)، وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون اليهودية، وأسرى المجاهدين العراقيين في سجون التحالف الصليبي، وأسرى المجاهدين الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا، وغيرهم من الأسرى المستضعفين؛ وهؤلاء نسيهم الناس في زحمة الأحداث وتوالي النكبات وتتابع المصائب والله المستعان. إلى أن جائت بلية البلايا في العراق يوم أن فضح الله الصليبين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، عندها التفتت الأعناق إلى العراق، لتشاهد وترى آيات القرآن التي يقرؤها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يرونها عيانا بيانًا في تصرفات الحلف الصليبي، وفي صحفه ووسائل إعلامه، التفت الناس إلى العراق ليقرؤوا قول الله عز وجل: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، وقوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].
قال ابنُ كثير: "يَقُول تَعَالَى مُحَرِّضًا لِلمُؤمِنِينَ عَلَى مُعَادَاتهم وَالتَّبَرُّؤِ مِنهُم وَمُبَيِّنًا أَنَّهُم لا يَستَحِقُّونَ أَن يَكُون لَهُم عَهد لِشِركِهِم بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكُفرهم بِرَسُولِ اللَّه وَلأَنَّهُم لَو ظَهَرُوا عَلَى المُسلِمِينَ وَأُدِيلُوا عَلَيهِم لَم يُبقُوا وَلَم يَذَرُوا وَلا رَاقَبُوا فِيهِم إِلاً وَلا ذِمَّة"اهـ. وقال الشيخُ ابنُ سعدي: "أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون الله فيكم، بل يسومونكم سوءَ العذابِ، فهذه حالكم معهم لو ظهروا عليكم"اهـ.
التفتنا إلى العراق لنقرأ قول الله عز وجل: قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:118، 119].
أيها المسلمون، إن ما شاهده الناس من أفعال الصليبين لهو مصداق ما أخبر اللهُ به عنهم، ومهما تصوّرنا من الحقد الأزرق الدفين في قلوبهم فلم يمرّ على مخيلتنا كما رأينا، ولكنَّ الأمر الأغرب الذي رأيناه هو هذه العقلية الصليبية التي تسير إلى الحضيض، وتتعثر في حفر الإباحية، وترصف في أغلال القحة القذرة، ثم تأتي إلى العالم الإسلامي بالقلم الأحمر مصحّحةً ومخطئة، تعلِّمُنا كيف نعبد الله، وكيف نفهم الإسلام، وكيف نتعامل مع المرأة، وكيف نضع المناهج لتعليم نشئنا.
إن أمة بهذا الانحطاط كيف تجرؤ على تسويق قيَمها وفرضها على العالم. إنّ الأمم إذا سقطت في ميادين الأخلاق كان سقوطها في أرض الواقع أسرع مما يظن الكثيرون.
يتعجب المسلم عندما يسمع أحد الجنود الأمريكيين الوحوش ممن عذبوا العراقيين المعتقلين يقول دفاعا عن نفسه: "إن العراقيين حيوانات، وما الضرر من تعذيب حيوان؟!". هذه التصرفات التي تدل على السقوط في ميادين الخلق تدلّنا على أن ما بعد ذلك إلا السقوط في عالم الواقع، فهذه الأمة الظالمة أيامها محدودة، والعد التنازلي في نهايتها قد بدأ فعلاً، وليس هذا إفراطًا في التفاؤل ولا مبالغة، بل هذه قناعة عند كثير من المفكرين الغربيين، والذين هم أعلم بطبيعة النظام الأمريكي المتآكل، وليس المهمّ متى ستختفي هذه الدولة؟ الآن أو بعد عقد أو بعد قرن من الزمان، ولكن المهم أن يعلم المسلم أن مدتها حسب سنن الله قد أوشكت: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
إن قوة البطش التي تتمتع بها الدولة الأمريكية لا يجب أن تخدعنا، حينما تتأسس أيُ قوة على الظلم والقهر والوحشية فمآلها الزوال لا محالة.
يومًا بعد يوم يدرك المرء أن الكفر والجاهلية لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير الجاهلية مهما كانت ملمّعة أو ذات هالات وهيلمانات، وهذه الدول الصليبية خلال سنة أو تزيد تجدها تسقط في فنجان الوحل، لتكون فرجة بتخبطها وانكشاف عوارها. من منا الآن يحترم هذا الجنس الهمَجي؟! من منا لا يحتقر هؤلاء دينيًا وثقافيًا وأخلاقيًا؟! من منا يستطيع أن ينظر إلى الواحد منهم دون أن يتقزز أويشمئز؟! هؤلاء الهمج لم تصقلهم القرون والمدنيات، ولم تقض الأضواء على الوحش الذي يعيش فيهم، قذرون في كل شيء، ومنبوذون من كل الأمم، لم يستطيعوا أن يجعلوا العالم يحبّهم، لم يستطيعوا أن يكونوا أذكياء ولا أقوياء ولا حكماء ولا عقلاء، سقطت كل أحلامهم، انكشفت حقيقة أخلاقهم، من يحترم اليوم هؤلاء؟! هل يمكن أن يحترم شخص من يتبوّل عليه باحتقار وعنجهية؟! هل يحترم المقتول قاتله؟! ما الذي جاؤوا به إلى المنطقة لتحترمهم؟! هل يستطيع أيُ مسلم أن يرى هؤلاء بعد اليوم يمثلون فعلاً حقوق الإنسان والحرية والثقافة والمدنية؟! إنهم يريدون تحويل العالم إلى غاب يسطو فيه القوي على الضعيف، لذلك ستفهم البشرية يوما بعد يوم أن رحمتها وأمنها في مبادئ الإسلام الخالدة، والتي نزلت لتطهير البشر من رجسهم، وليس لتنجيسهم بالبول عليهم، فأين هؤلاء منا أهل الإسلام؟! فليرفع المسلم رأسه، وليتعال على هذه الإهانات، فلقد انتهى كلُّ شيء، وانقشع الغبار، وزالت الغشاوة عن العقول والعيون، وعرفت كلّ نسمة في الشرق الأوسط أن هؤلاء عدوّ لها، هذا ما ظهر في أفعالهم، وما تخفي صدورهم من العداوة أعظم وأكبر، وإذا كنا نتكلم عن السقوط الأخلاقي فإنّ ما فعله السجّانون الصليبيون بأسراهم العراقيين ليس بدعًا في الأخلاق والسلوك الصليبية، وليس غريبًا من أُمةٍ سقطت أخلاقيًا يوم سوّقت للرذيلة، وقدّست الحرية البهيمية الشهوانية، وتكدّس العُراة على سواحلها في مشاهدهم البهيمية. إن أمريكا ستظلُّ عُنوانًا للرذيلة على مدى العُصور والدُهور، وسيُسجّل التاريخ بِمدادٍ أسود كيف قُدّر لأمريكا يومًا ما أن تعلو كدُخانٍ وضيعٍ، فما كان لها إلاّ أن ظلمت وسرقت ونهبت وعذّبت وأذلّت وانتهكت كُلّ قِيمِ أهلِ الأرض، فكان جديرًا بها هذا البعد عن التوفيق، وهذا الانحدار المتواصل إلى السقوط، والله أمهلهم، وهو يمهل ولا يهمل، فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17].
معاشر المسلمين، وهل تمر الأحداث هكذا دون عواقبها الوخيمة وردات فعلها العظيمة؟! إن عقول المسلمين تختزن المواقف والصور، وتلتقط المشاهد والذكريات، ويتشكل الموقف من هؤلاء السفلة في ضمير كل مسلم، فهل سيكون موقفًا إيجابيًا؟! وهل يغفر لهم المسلمون هذه الأفعال؟! وهل تغفر لهم الإنسانية هذا الانحطاط؟! إن هذه الجرائمَ لا تسقط بالتقادم، وإذا كانوا يشعرون بالخزي والعار من نشر صور الرجال العراقيين تحت التعذيب الشاذ فماذا لو نشرت صور العراقيات المعذّبات في سجون الاحتلال؟! ثلاثة آلاف سجينة، فماذا يتوقع من هؤلاء السفلةِ أن يفعلوا بهن؟! إن الحقيقة لا تكتمل إلا بالوقوف على مآسي إخواننا؛ ليرى العالمُ ويدرِكَ عدالةَ انتصار المسلمين لأنفسهم. إن كشف حقيقة هذه المآسي للناس ليَدعوا لهم في أقل الحالات واجبٌ شرعي وإنساني، فالتعذيب النفسي والجسدي من سفلة العالم فاقت كل الحدود. إنهم يستخدمون كل الوسائل, حديثها مثل قديمها؛ لإذلال شعبنا ومجاهدينا، والقصص العجيبة لا تحصى حول ذلك وتتداولها ألسنُ أهلنا في العراق. فمن بين الأسئلة التي تدور في خاطر بعض العراقيين: لماذا قصفُ سجن أبي غريب وسجن المطار ضمن أهداف المقاومة؟! والجواب يعرف عند الخارجين من هذه السجون وهم يقولون: إن القصف يشمل أحيانًا بعض العنابر النسائية وحتى الرجالية بطلب من الأسرى أنفسهم، والموجبات لذلك أكبر من أن يحتملها العقل لمن لا يعرف حقيقة ما يجري يوميًا في معسكرات الإبادة هذه، فمن بين ما يستخدم ضد أخواتنا حُقَن تتسبب في فقدان التوازن العصبيّ والجنسي مما يحوّلها إلى مادة للمتعة الشاذة والماجنة لجنود البربر الجدُد، يتبَعها عمليات اغتصاب منظمة لكسر نفوسهم ومعنوياتهم، فما كان منهن إلا إيصال رسائل استغاثة إلى الخارج والطلبِ من المقاومة بقصف عنابر النساء لتخليصهن من المأساة والإذلال الهمجي، والله المستعان.
إخوة الإسلام، لقد حاول المسؤولون في حِلف الضلال قدرَ جهدهم أن يجعلوا من تلك الجريمة حوادث فرديةً من بعض الجنود، وأنها لا تستدعي التضخيم والتهويل, ولكن الواقع في حقيقة الأمر يكذب تلك الادعاءات ويدحضها, حيث تدل تصريحات كثيرة بعضها لمن كان في مسرح الحدث أن المرتكبين لهذه الجرائم لم يكونوا بضعة جنود فقط, وإنما مجموعات تلقَّوا أوامر واضحة، وطُلب منهم إعداد المعتقلين للتحقيق.
ولا أدلّ على ذلك من الكم الهائل من الصور التي شاهدها أعضاء الكونجرس في غرفة سرية، فالجارديان البريطانية ذكرت بأن الصور بلغت 1800 صورة وشريط فيديو، بينما وكالة رويترز حددتها بـ1600 صورة، وهل يعقل أن هذا العدد الضخم من الصور تم التقاطه بطريقة عفويّة من أشخاص معدودين، أم إنها عملية توثيق منظمة لعمليات التعذيب والممارسات الشائنة للمعتقلين العراقيين. ثم ماذا تتضمن هذه الصور؟ لقد نصّ وزير الدفاع الأمريكي وجميع المشاهدين لها من أعضاء الكونجرس أنها أكثر بشاعة مما نشر، هل هناك أكثر بشاعة من الاغتصاب والتعذيب بالكهرباء وانتهاك الأعراض، بل والتبول على المعتقلين والتلذذ بتصويرهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم؟!
إن الأمر باعترافهم أخطر وأعظم مما نتصوّر، ثم يريدون أن يقوم المسلمون لهم إكبارًا وإجلالاً، يريدون مع تصرفاتهم هذه أن نحرِّم المقاومة ونرحِّب بالمحتل الذي يريد تحرير العراق من التعذيب والقهر والديكتاتورية، فإذا هو نفسه يمارس أبشع أنواع التعذيب والقهر والديكتاتورية، بل وأكثرَها نذالة وانحطاطًا. فمن يلوم المقاومين اليوم في العراق؟! خاصة بعد أن انتهكت كرامة الأهالي هناك. هل يحقّ لنا أن نطالبهم بقبول التعويضات المادية الرخيصة وهم يريدون الانتقام لدينهم وبلادهم وأعراضهم؟! لماذا نطالبهم بقبول أخس المكاييل؟! لماذا نطالبهم بالقبول بالهوان وأبخس الأثمان؟! لماذا لم تقبل الدولة المعتدية بالتعويضات في مشكلة الفلوجة؟! لماذا لم يهدأ الحقد الصليبي إلا بعد مقتل سبعمائة مدني عراقي مقابل أربعة من المرتزقة؟! يقول وزير الدفاع الأمريكي بالنص: "أبحث عن وسيلة لتقديم تعويضات مناسبة لهؤلاء المعتقلين الذين عانوا من معاملة بهذه الوحشية والقسوة من جانب بعض عناصر القوات المسلحة"، مضيفًا: "هذا ما ينبغي القيام به"!!
ويهمس بعض المراقبين: وهل قبلت أمريكا دفع تعويضات جراء ما تعرض له المرتزقة الأمريكيون في الفلوجة؟! وهل يقبل رسل الحرية الأمريكيون أن يسلموا زبانيتهم للعراقيين لمحاكمتهم كما أصرّوا أن يسلّم أهل الفلوجة العناصر المتهمة بالتمثيل بجثث المرتزقة الأمريكيين ؟!
بهذه الأحداث لا يمكن لأحد أن يتعاطف مع هؤلاء الأعداء أو يدافع عنهم.
بهذه الأحداث لا يمكن لأحد أن يطالبنا بقبول الآخر الأمريكي، لأن الآخر لم يقبلنا في الأصل وإنما عادانا وقهرنا وعذبنا ونهبنا، بل وتبول على رجالنا، فالذي يقبل بهذا فليرحّب بهم، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان.
|