أما بعد: لقد صلّى عدد غير قليل من المسلمين فجر هذا اليوم صلاة الخسوف في عدد غير قليل من المساجد، أما من فاته صلاة الفجر فقد حرم هذا الأجر العظيم، وربما أعداد لم تعلم بأن صلاة الخسوف صليت هذا اليوم.
أيها المسلمون، إن هذا الحدث الكوني من خسوف القمر أو كسوف الشمس له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان من المسلمين ولا يقيمون لها وزنًا، ولا يقومون بما أمرهم به رسول الله .
إذا حصل ذلك ينبغي على المسلم أن يتميز عن الكافر حال الكسوف أوالخسوف، وهو أن يفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، كما أمرنا بذلك رسول الله .
أيها المسلمون، إننا نحن المسلمين نقر بأن لهذه الظواهر الكونية أسبابا طبيعية، وأن أهل الفلك يستطيعون معرفة وقوعه قبل وقوعه عن طريق حسابات دقيقة ويحدد باليوم والساعة والدقيقة، ونقر أيضا ونعتقد بأن لهذه الظواهر أسبابا شرعية أيضا وهي المهمة، وأنها ابتلاءات يخوف الله بها عباده من عاقبة ما يفعلون، وعن جرم ما يرتكبون، جعلها الله أسبابا لنستيقظ من غفلتنا، ولنحاسب أنفسنا، ولنلتفت إلى واقعنا، فنحدث بعدها توبة، ونصحح ما نحن فيه من أخطاء.
إن ذهاب نور الشمس والقمر كله أو بعضه ـ أيها الأحبة ـ ما هو إلا إنذار وتذكير للعباد ليقوموا بما يجب عليهم من أوامر الله، ويبتعدوا عما حرم عليهم من نواهي. ولذلك كثر الخسوف في هذا العصر عما كان عليه الحال فيما مضى، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف أو خسوف، في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، مع أنه في زمن النبي لم يحصل إلا مرة واحدة.
لقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:60].
أيها المسلمون، إن لذهاب ونقصان ضوء القمر ارتباطا مباشرا بأعمال بني آدم وبمعاصي بني آدم. إن المعصية شؤم كلها، ولها عواقبها على الأنفس والأهل والمجتمعات والدول، وحتى على الكون.
أما شؤمها على العبد فيهون العبد على ربه، ويرتفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، يقول الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم".
أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
بسبب الذنوب والمعاصي يكون الهم والحزن، ويكون العجز والكسل وفشو البطالة، ويكون الجبن والبخل، ويكون غلبة الدين وقهر الرجال. بالمعصية تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الرب، فكيف لا ينخسف قمر أو ينكسف شمس إذا ابتلى العبد بالمعاصي؟! استوحش قلبه وضعف بأهل الخير والصلاح ارتباطه، قال بعض السلف: "إنى لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي".
وأما شؤم الذنوب والمخالفات على الدول والمجتمعات فأمر عظيم وخطر جسيم، فكم أهلكت من أمة، وكم دمرت من شعوب، وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:25-29].
بسبب المخالفات تتوالى المحن، وتتداعى الفتن، وترتفع الأسعار، وتتعقد المعيشة، وتكثر المخاوف، وتقل الوظائف، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن بلادا من بلاد الله الواسعة كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم، فحل بهم أمر الله وسنته، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
فعمَّ قومَ نوح الغرق، وأهلكت عادا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]. إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ، تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها، وما هي من الظالمين من أمثالنا ببعيد.
ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلّلت في دولة إلا أسقطتها.
أيها المسلمين، لقد فشا الزنا، وظهر الربا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، لقد كثر أكل الحرام وتنوعت فيه الحيل، وارتفعت أصوات المعازف والمزامير المحرمة في كل مكان، وسمع الغناء في كل ناحية، لقد تهاون الناس في سماع الموسيقى وفي شرب الدخان وفي حلق اللحى وإسبال الثياب ومشاهدة التلفاز واستحلال الدشوش، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات من المغازلات والمعاكسات، بل والخلوات المحرمات، ثم إنك لتسمع شهادات باطلة وأيمانا فاجرة وخصومات ظالمة، وبعد هذا كله نستغرب أنّ بسببه ينخسف قمر أو تنكسف شمس.
إن الأمة حين تغفل عن سنن الله فتغرق في شهواتها وتتنكب طريقها، يقع عليها حكم الله عز وجل، إنها سنة الله حين تفشو المنكرات وتقوم حياة الناس على الذنوب والآثام. إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة وانتشار أوكار الفساد وسلوك الناس مسالك اللهو والترف طريقة إلى عواقبِ السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، وتقع في الأعراض، وترخص القيم العالية، فماذا يحصل بعد هذا كله؟! تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتطوي صفحتها، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
أيها المسلمون، إنه لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع ولا تختلط النيات ولا تتميع المجتمعات ولا تضيع الأمة إلا حين يهدّ جدار ذلك الحصن الحصين وذلك الدرع الواقي والسياج الحامي ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الوثاق الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتهتك به أستار المجرمين. بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، إذا تعطلت هذه الشعيرة ودكّ هذا الحصن وأقفلت معظم أبوابه وتفرق معظم أنصاره، فعلى معالم الإسلام السلام، وويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل للصالحين من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين. روى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)) حديث حسن، وفي حديث آخر صحيح يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)).
أيها المسلمون، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنقص الأرزاق، وتنزع البركات، ويعم الفساد، وتفشو الأمراض، وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال. أقبل رسول الله يوما على أصحابه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) أخرجه الحاكم وابن ماجه، وهو حديث حسن.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم رد عنا كيد الكائدين وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفساد والمفسدين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من ذنب.
|