أمّا بعد: فيا أيها الناس، إنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض. وإنّ غواسِقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِّ جانب، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخَذ، بل وتخطَّفتنا على غِرَّة كما تتخطَّف الزوابع نِثار الأرض. إنَّها لفتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولا، ذلكم الحليم الذي رُزق خَصلةً يحبُّها الله ورسوله ، الحليمُ الذي إذا شُتِم صبر وإذا ضُرِب غفَر، إنّه ليُرى إبَّان هذه الفتن حيرانًا من هول الوقع وعِظَم الخطب. وهذه الفتنُ التي تعترينا حينًا بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37].
في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه)) الحديث، يقول الحافظ ابن حجر في معنى قوله: ((من تشرَّف لها)): "أي: تطلَّع لها بأن يتصدَّى ويتعرَّض لها ولا يُعرض عنها".
أيها المسلمون، لقد تكاثرت في هذه الآونةِ حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في المجتمع المسلم، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، ولقد أشار المسلم بالسِّلاح على أخيه المسلم، بل وأفرَغ حشوَه فيه، وهذا ما لا كُنّا نعهدُه في زمَن الاستقرار الوارف والطمأنينةِ التي عمَّت المجموع، فما الذي غيَّر الأمرَ عن مجراه؟ ولأيِّ شيء يختلف اليومُ عن الأمس؟ وما هو السبيلُ للخروج من عُنُق الزجاجةِ القاتل؟ هذه كلُّها أسئلةٌ تستدعينا إلى التركيز على أهمِّ المعطَيَات التي ينبغي الوقوفُ أمامها بصِدق والتعامُلُ معها بنيَّة إصلاحِ ما في النفس ليصلِحَ الله ما في الواقع، وهذه المعطياتُ ليست بالقليلة، غيرَ أنَّ العجالةَ تضطرُّنا إلى ذكر الأهمّ، وذلك في الأمور التالية:
الأمر الأوَّل: أنّ الاختلال الأمنيّ المتمثِّلَ في كثرةِ القتل وإزهاق الأنفس البريئة دونَ بُرهانٍ من الله لهو من علامات آخر الزمان المنذِرةِ بدنُوِّ الساعة التي لا يعلَمها إلاَّ الله، ففي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((يتقاربُ الزمان، وينقُص العمل، ويُلقى الشحّ، وتظهرُ الفتن، ويكثر الهَرج))، قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: ((القتل القتل)).
والأمر الثاني عباد الله: هو أنَّ استقرارَ المجتمع المسلِم الذي يهنأَ فيه بطعامه ويُسيغ شرابَه ويجعَل نهارَه فيه معاشًا ونومَه سباتًا وليله لباسًا لا يُمكن أن يتحقَّق إلاَّ تحتَ ظلِّ الأمن الوارفِ، فالأمنُ والأمان مطلبٌ مُلِحّ للمجتمعات طُرًّا، لا يُنكر ذلك إلاّ مُكابر أرعَن؛ لأنّ الأمنَ إذا اختلَّ فإنّ مغَبَّته لن تكونَ قاصرةً على المخلِّ به فحسب، بل إنّها ستطال نفسي ونفسَك أيّها المسلم، وولدِي وولدك، وأسرتي وأسرَتك، والواقع المقرَّر هو أنَّ المجتمعَ المتكامِل من جميع جوانبه هو ذلكم المجتمعُ الذي تتحقَّق فيه الأسُسُ الأمنية الثلاثة، ألا وهي الأمنُ العسكريّ والأمن الغذائيّ والأمن الصحِّي، وهذه الأسُسُ الثلاثة لا يمكِن أن تتحقَّق جميعًا دونَ اختلالٍ إلاَّ تحت ظلِّ الإسلام وشِريعته، فلقد صحَّ عن النبي أنه قال: ((من أصبَح آمنًا في سِربه معافًى في جسدِه عنده قوتُ يومِه فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وابن ماجه.
والأمر الثالث عباد الله: أنَّ أحداثَ التفجير الماضِية والتي استهدَفت معصومي الدمِ فيها لهي أمرٌ لا يرضاه دينٌ ولا عقل ولا عُرف، وشجبُه واستنكاره درجةٌ واجبة من درجاتِ تغيير المنكَر، وأما الرِّضا به والفرحُ فهو لونٌ من ألوان الخيانةِ في الباطن، فالنصوصُ الشرعية متكاثِرة في بيان حُرمة المسلم وعِصمة دمه وبيان احترامِ حقِّ السُّلطان المسلم وعدمِ الافتيات عليه وعلى أهلِ العلم، فاللهُ جلّ وعلا يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول جلَّ شأنه حكايةً عن ابنَي آدم عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، هذه هي حكايةُ ابنَي آدم؛ أنَّ بدايةَ القتل كانت مِن وَلَد ابن آدم.
وفي صحيح البخاري أن النبي قال: ((إذا مرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء))، وفي الصحيحين أنَّ النبي قال: ((من حَمَل السلاحَ علينا فليس منا))، وفيهما أيضًا قوله : ((سِبابُ المسلم فُسوق وقتاله كفر))، وروى الإمام أحمد في مسنده عن الحَسَن البصري أنه قال: إنّ عليًّا رضي الله عنه بعث إلى محمد بن مَسلمَة، فجيء به فقال: ما خلَّفك عن هذا الأمر؟ يعني القتال بينه وبين خصُومه رضي الله عنهم أجمعين، قال: دفَع إليَّ ابنُ عمك ـ يعني النبي ـ سيفًا فقال: ((قاتِل به ما قُوتل العدوّ، فإذا رأيتَ الناس يقتُل بعضُهم بعضًا فاعمَد به إلى صَخْرة فاضربه بها، ثم الزَم بيتَك حتى تأتيكَ منيةٌ قاضية أو يدٌ خاطئة))، فقال عليّ رضي الله عنه: خلُّوا عنه، ونقل ابن عبد البر عن بعض السلف قوله: "أحقُّ الناس بالإجلال ثلاثةٌ: العلماءُ والإخوان والسلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد [دينَه، ومن استخفَّ بالإخوان أفسَد] مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخفّ بأحد".
أما الأمر الرابع عباد الله: فهو ضرورةُ تشخيص هذا البلاء تشخيصًا نزيهًا عاريًا عن الشُبُهات والأهواء للوقوف على أسبابِه والبعثِ عن العلاج الأمثلِ له، وأن لا يجاوزَ التشخيصُ موضعَ الداء، بحيث إنه لا يجوز أن يُلقى باللاَّئمةِ إلى غير مرتَكبي تلكم الأحداث، فلا يجوز أن ينسَبَ السبب إلى التديُّن مثلاُ، أو إلى علوم الشريعة ومناهجها، أو إلى العلماءِ والدعاة المخلِصين، فإنَّ السرقةَ في المسجِد لا تستدعي هدمَ المسجد، كما أنَّ عدمَ فَهمِ الشريعة والتديُّن لا يعني إلغاءهما من واقع الحياة، ولو تستَّر لصٌّ في حجابَ امرأة فلا يعني ذلك إلغاءَ الحجاب بالمرَّة.
فليتَّق الله أولئك الذين يشوِّشون عند كلِّ حَدَث سانِح، فيرمون أصالتنا وتمسُّكَنا بديننا ردحًا من الزَّمن بأنه هو سببُ هذه الحوادثِ والمعضلات، فيكون هذا التَّشويش تكأَةً يتَّكئ عليها أعداءُ الإسلام من الكَفَرة الحاقدين ومن المعجَبين بهم، ومبرِّرًا سائغًا لهم في تمرير ما مِن شأنه فرضُ المسوِّغات المشروعة بزعمهم في الضغوط المتتالية على حِياض المسلمين، فيأتيهم مثلُ هذا التهويش والتشويش على طَبَق من ذهب ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيَل، ولا جَرَم ـ عباد الله ـ إذ الخَطَر من قِبَل التشويش الداخليّ أشدُّ وقعًا من التشويش الخارجي، وإنَّ مثَلَ الناعقين عبرَ وسائلَ متعدِّدةٍ في وجه الدين والتديُّن والمناهج النيِّرة والاستقامة المشهودة في المعتَقَد والفكر كمثل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي أنه قال: ((ضاف ضيفٌ رجلاً من بني إسرائيل وفي داره كلبة، فقالت الكلبة: والله لا أنبحُ ضيفَ أهلي، قال: فعَوى جِراؤها في بطنها قال: قيل: ما هذا؟ قال: فأوحى الله عزّ وجلّ إلى رجلٍ منهم: هذا مثلُ أمَّةٍ تكون مِن بعدكم يقهَر سفهاؤها أحلامَها)).
وحاصل هذا الأمر ـ عباد الله ـ هو أن يعالَجَ الفكرُ بالفِكر، وأن لا يستغلَّ الخطأ في إذكاء تفريق الكلمة وإضعافِ التديّن، فقد قُتل عليٌّ رضي الله عنه بأشدَّ من هذا ولم يُلقَ باللائمة على الدين وأهله، وإنما كانت اللاَئمةُ والرَّدع على ذوي الفِكر أنفسِهم وهم الخوارج الذين خرجوا عليه ورأوا أنَّ قتلَه رضي الله عنه وتخليصَ الأمة منه من أعظم القُرُبات إلى الله بزعمهم عليهم من الله ما يستحقّون، بل لقد وصفَ أحدُ شعرائهم عبدَ الرحمن بنَ مُلجم قاتلَ عليّ رضي الله عنه بأنه أوفى البريَّة عند الله ميزانًا، والقائلُ هو عِمران بن حِطّان الخارجي الذي قال مادِحًا قاتل علي:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها إلاَّ ليبلغَ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكُره يومًا فأحسـبه أوفى البريـّة عنـد الله ميزانـا
كبُرت كلمةً تخرجُ من فمه، إن يقولُ إلاَّ كذبًا.
وقد ردَّ عليه بعضُ أهل السنة بقوله:
بل ضربةٌ من شقيّ أوردته لظى وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
إني لأذكـرُه يومـًا فألعنـه أيضًا وألعنُ عِمـرانَ بنَ حِطّانا
والشاهد من هذا ـ عباد الله ـ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يثنِهم فعلُ الخوارج عن زيادةِ تمسُّكهم بدينهم واستلهام لُطفِ الله ورحمته بهم والثباتِ على الدين رغمَ ما اعتراهم من نوابتَ شذّت عن سوادِهم الأعظم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارا.
|