أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس، وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد، يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدَث؟ وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟ في تفكّرٍ ومحاسبات ومعالجَة ومراجعات وتحليل ومتابعاتٍ وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما في ما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكَمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان. ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة ومسطَّرٌ بآلامها ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام، وربوعِ الأمن والأمان، ونجدِ المحبّة والإخاء، ورمزِ الحضارة والإباء: هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. إنَّ ما حدث في والرياض من حوادثَ مؤلمةٍ قام بها فئة ضالة خونة أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ وأوضَعوا في العدوان، ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم، واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل لتكَوِّن مجتمعةً عملا إرهابيًّا آثمًا يأباه الله ورسوله وصالحُو المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولا ما وقعَ في بلدِ الله الحرام عشيَّة يوم السّبت من إقدام فئة ضالّةٍ عن سواء السّبيل على إطلاق النّار صوبَ عبادِ الله المؤمنين من رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من إحباطِ المسعى الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من أحدِ المساكن في هذا البلد وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار ـ أيّها الإخوة ـ مؤمنٍ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلا عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين أُطلِقت عليهم هذه النّيران فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟!
وهذا العملُ خيانة وغَدر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وترويعٌ للآمنين. إنّ هذا الإجرامَ تحاربه مناهجُ التعليم لدَينا، ويحاربه علماء هذه البلاد، ويحاربه أئمّة الحرمين الشّريفين، ويحاربه مجتمعُنا ككلّ. والمناهجُ الدينيّة لدينا مبنيَّة على قولِ الله الحقّ، وعلى قول رسول الله الحقّ، والحقّ خيرٌ كلّه للبشرية، ولا يترتّب عليه باطل، وإذا شذَّ في الفكر شاذّ فشذوذه على نفسه كما هي القاعدة في الإسلام، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، وهل يُلقى باللّوم على النحل كلِّه إذا جنت أعدادٌ منه ثمرةً سامّة.
وولاة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
إنَّ الموْقفَ المبْدئيَّ الشَّرْعِيَ الصَّريحَ يجب أن يكون قدْرًا مشْتركًا لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاءِ برفْض هذا العمل وتحْريمهِ وإدانتهِ شَرْعًا، فالشريعةُ جاءت بحفْظِ الأمْـن وحفْظِ الدِّمَاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)) رواه مسلم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْـوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) الترمذي والنسائي، وَقَـالَ : ((لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي فُسْحَةٍ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). فدم المسلم حرامٌ، وماله حرامٌ، وعرْضه حرامٌ، وقد صان الإسلامُ الدِّماءَ والأمْوَالَ والأَعْرَاضَ، ولا يجوز استحلالُها إلا فيما أحلَّه اللهُ فيه وأباحهُ، قَـالَ : ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)). وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ) رواه الترمذي. وقَتْلُ المسلم بغيْر حَقٍّ من كبائر الذُّنُوبِ، والقاتلُ معرَّضٌ للوعيدِ، وقد نهى اللهُ سبْحانهُ وتعالى عن قتْلِ النَّفْسِ بغير حَقٍّ فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
وحفاظًا على النَّفْس المسْلمةِ البريئةِ من إزْهاقِها وقتْلِها بغيْر حَقٍّ نهى رسولُ اللهِ عنِ الإشارةِ إلى مسلم بسلاحٍ ولو كان مزاحًا سَدًا للذَّريعةِ، وحَسْمًا لمادَّةِ الشَّرِّ التي قد تُفْضي إلى القتْل، فعن أبي هُرَيْرَةَ أن رسولَ اللهِ قالَ: ((لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَـلَّ الشَّيْطَـانَ يَنْـزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ)) البخاري، وفي رواية لمسلم قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
فإذا كان مجرَّدُ الإشارة إلى مسلم بالسِّلاح نهى عنْه رسولُ الله وحذَّر منْه ولو كان المشيرُ بالسِّلاح مازحًا، ولو كان يمازح أخاه من أبيه وأمِّه، لأنه قد يقع المحذورُ، فكيْف بمنْ يزْرعُ القنابلَ والمتفجِّراتِ، فيستهْدفُ الأرْواحَ المسلمةَ البريئةَ، فيقْتُلُ العشراتِ ويجْرحُ المئاتِ ويروِّعُ الآلافَ من المسلمينَ؟! كيْف بمنْ يقتُلُ الصَّغيرَ والمرْأةَ والشَّيْخَ العجوزَ من غيْر جريرةٍ اقْترفوها؟!
إنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ كان معرَّضًا لأشدِّ العذابِ والعقابِ والوعيدِ قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
ومن أجْلِ ذلك فإنَّ كُلَّ عملٍ تخْريبيٍ يسْتهدف الآمِنين مخالفٌ لأحكام شريعةِ ربِّ العالمين، والَّتِي جاءتْ بعصْمةِ دماءِ المسْلمين والمعاهَدِين.
العُنْفُ لا يَحْمِلُ مشْروعًا غَيْرَ التَّخْريبِ والإفْسادِ. العُنْفُ يورِّثُ عَكْسَ مقْصودِ أصْحابهِ، فَالمشاعرُ والعقولُ كلُّها تلْتقِي على اسْتنْكارهِ ورفْضهِ والبراءةِ منْه ومن أصْحابهِ، ومن ثَمَّ فإنَّه يبْقى علامةَ شُذوذٍ ودليلَ انْفـرادٍ وانْعزاليةٍ.
إِنَّ نَشْرَ الرُّعْبِ والتَّرْويع في أوْساطِ المجتمعِ يعدُّ فسادًا عظيمًا، ولذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)) رواه أبو داود.
فالأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ، ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ، ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّامًا ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان، وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ وتطْبيقُ شرْعه والاحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْـنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ، وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ، وتُأْمَنُ السُّبُلُ، ويُنْشَرُ الخيْر، ويعمُّ الرَّخَاءُ، وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ، وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفـوْضى.
فلْنكنْ كلُّنا جنودًا في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلـوبِ، وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لا بدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شـرْع اللهِ في أنْفُسِنَا وفي بيوتِنـا ومجْتمعِنا.
أيّها الناس، إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتَذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل المولى جلّ وعلا أن يغفرَ لي ولكم فضلاً منه وجودًا ومنًّا، لا باكتسابٍ منّا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربّي لغفور رحيم.
|