أما بعد: أيها المؤمنون، فلا يزال الحديث موصولاً في ظلال محبته ، إذ مضى شطرُه في بواعِث المحبة، وركائزها في النفوس، وبقي في ذمّة المحبين نصبُ ميزان الحب وإقامة برهانه والوفاء بثمنه، فالحب ليس ادعاءً فيتحلى به غيرُ أهله، ولا كلامًا سهلاً يتصنعُه من لم يذق حلاوته في قلبه.
أيها المؤمنون، إن لحبّ النبي رصيدًا في قلب كل مؤمن، فما من مؤمن إلا وله من حبه نصيب، فمستقلٌ ومستكثر، وعل قدر أمارات المحبة تكون حقيقتها، فسل نفسك وفتش في قلبك وعملك.
فإن كنت تحبه فقدم حبه على حب ما سواه، أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الحديث. وسُئل علي بن أبي طالب : كيف كان حبكم لرسول الله ؟ قال: كان ـ والله ـ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
روى ابن هشام في السيرة عن سعد بن أبي وقاص قال: مرَّ رسولُ الله بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأُحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. أي: هينة.
إن كنت تحبه فأطعه، فالطاعة علامة صدق المحبة وشرطها وثمرتها، قال القاضي عياض: "اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه".
لما كان يومُ بدر خرج رسول الله وأصحابُه يريدون عيرَ قريش، حتى أتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرَهم، فاستشار رسول الله الناس وأخبرهم الخبر، وقال: ((أشيروا عليّ أيها الناس))، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى برك الغِماد ـ يعني الحبشة ـ لجالدنا معك مَن دونُه حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير، ثم قال: ((أشيروا عليّ أيها الناس))، وهو إنما يريد الأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل))، فقال سعد: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدا، إنا لَصُبْرٌ عند الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله.
هل رأيت أعظم من هذا الحب أو أصدق من هذا الوفاء؟! إنها ليست طاعةً في ركعتين يركعها، ولا امتثالاً لنهي عن لذة يشتهيها، إنها أنفسٌ تُباع، وأشلاء تُمزق، وأرواح تُزهقُ طاعةً لله ورسوله.
عن الشعبي قال: لما دعا رسولُ الله الناس إلى البيعةِ يوم الحديبية كان أولَ من انتهى إليه أبو سنان الأسدي، فقال: ابسط يدك أبايعك، فقال النبي : ((علام تبايعني؟)) فقال أبو سنان : على ما في نفسك، على ما في نفسك، يقولها وهو يعلم ما يقول، يعلم أن ثمن مقالته أن يأخذ الله من دمه حتى يرضى.
أيها المحب إن كنت تحبه فوقره وعظِّمه، ألسنا نقرأ قوله جل في علاه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، وقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9]؟!
قال أبو بكر بن العربي: "حرمةُ النبي ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثورُ بعد موته في الرفعة مثلُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يُعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به".
روى البخاري في صحيحه عن عروةَ بن مسعود أنه قال لقريش وقد بعثته في شأن الصلح: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن انتخم نخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له.
وعن بريدة بن الحصيب قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله لم نرفع رؤوسنا إليه إعظامًا له. رواه البيهقي.
وعن عمرو بن العاص قال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه. رواه مسلم.
وروى مسلمٌ عن أنس قال: لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلق رأسه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل منهم. وكيف لا يكون الأمر كذلك؟! ألم يكن كلَّ شيءٍ في حياتهم؛ معلمَهم، مربيهم، قائدهم، قدوتهم، إمامهم في الدنيا والشهيد عليهم في الآخرة؟!
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً، فلما سألَنا عن مقالتنا في عيسى ابن مريم وأمِّه أجابه جعفر بقول الله فيهما، فرفع النجاشي عُودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيهما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجدُ في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بَشّر به عيسى ابنُ مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحملُ نعليه.
وإن كنت تحبه فعظم سنته، فلقد كان سلفنا الصالح إذا ذُكر عندهم النبي أو حديثٌ من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي أمامهم، عن عمرو بن ميمون رحمه الله قال: كنتُ لا تفوتني عشيةُ خميس إلا آتي فيها عبد الله بن مسعود ، فما سمعتُه يقول لشيء قط: قال رسول الله حتى كانت ذات عشية فقال: سمعتُ رسول الله ، قال: فنظرتُ إليه وهو قائم محلولة أزرار قميصه قد اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه، فقال: أو دون ذلك أو فوق ذلك أو قريبا من ذاك أو شبيها بذاك، وفي رواية: فنظرتُ إليه وهو معتمدٌ على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع، وفي أخرى: فأرعد وارتعد، قال: هكذا أو قريبا من هذا أو فوق ذا أو دون ذا، فقالوا له: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: إني حدثت بحديث عن النبي فتخوفت أن أزيد فيه شيئا أو أنقص منه شيئا. رواه الدارمي وابن ماجه بإسناد صحيح.
قال مصعب بن عبد الله: كان مالك رحمه الله إذا ذُكر النبي يتغير لونه، وينتحب حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيدَ القراء لا نكادُ نسألُه عن حديثٍ أبدًا إلا بكى حتى نرحمه، وكنت آتي صفوانَ بنَ سُليم فإذا ذُكر النبيُ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه .
قال ضرار بن مرة الشيباني: كانوا يكرهون أن يحدثوا بحديث على غير وضوء، وكان الأعمش رحمه الله إذا أراد أن يحدث وهو على غير وضوء تيمم.
قال عبد الرحمن بن مهدي: مشيت مع مالك يومًا إلى العقيق، فسألته عن حديث، فانتهرني وقال لي، كنت في عيني أجلَّ من أن تسأل عن حديث رسول الله ونحن نمشي.
أين أنتم ـ أيها المحبون ـ من تعظيم سنته والعمل بها والذب عنها وإحيائها في الناس؟!
وإن كنت تحبه فذُبَّ عنه وافده بنفسك ومالِك.
أجمع أهلُ العلم على وجوبِ قتل من سبَّ الرسول أو عابه أو ألحق به نقصًا في نسبه أو دينه أو خصلةٍ من خصاله، أو عرّض به أو شبَّهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراءِ عليه أو التحقير لشأنه، قالوا: ويُقتل بلا استتابة، وإن كان ذِمِّيا قُتل ودمه هدرٌ وعهده منقوض، كلُّ ذلك رعايةً لعظيم حقه على أمته.
لقد قدّم الصحابة رضوان الله عليهم صوَرا رائعة في ذبِّ المحب عن حبيبه، حدّثت أم سعدٍ بنتُ سعد بن الربيع قالت: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك، فقالت: خرجت أولَ النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراحُ إليّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبلَ يقول: دُلوني على محمد لا نجوتُ إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأُناسٌ ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان، يقول : ((ما التفتُ يمينًا ولا شمالاً يومَ أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني)).
وفي غزوة الرجيع لما غدر بنو لحيان بأصحاب النبي كان فيمن أسروه زيدُ بن الدِّثِنَة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فاجتمع رهطٌ من قريش فيهم أبو سفيان، فقال له حين قُدِّم ليُقتل: أَنشدك بالله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا الآن عندنا مكانك نَضرب عُنقَه وأنك في أهلك، قال: والله ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانِه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي، قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
|