أما بعد: مَن مِنا الذي لا تتحرّك نفسه حبّا، ولا يهتز فؤاده شوقا، ولا تدمع عينه أسفا أنه لم يرَ رسول الله ولا أنِسَ بصحبته؟! مَن مِنا الذي لا يفيض قلبه بمشاعر الوفاء لذاك النبي العظيم الذي أنقذنا الله به من النار، حين تقرأ سيرته، أو تزور مسجده، أو تسمع أمره ونهيه؟!
أيها المؤمنون، إنّ حب النبي عمل قلبي من أجلّ أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه.
محبته أن يميل قلبك ـ أيها المؤمن ـ إليه ميلاً يتجلى فيه إيثاره على كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين.
فتعال ـ أيها المؤمن ـ لنحرك في أنفسنا بواعث حبه، فكلما ازددت له حبا ازددت إيمانا وقربا وطاعة لله.
كيف لا نحبه والله جل في علاه قد أحبه واصطفاه؟! أخرج مسلم عن جندب قال: سمعت النبي قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)).
كيف لا نحبه وحبه من حب الله تعالى؟! عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني بحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)) رواه الترمذي و الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
كيف لا نحبه ولا إيمان لعبدٍ حتي يحبه؟! إن محبة الرسول أصل عظيم من أصول الإيمان يتوقف على وجودِه وجودُ الإيمان، فلا يدخل المسلم في عداد المؤمنين الناجين حتى يكون رسول الله أحبّ إليه من الناس أجمعين، بل ومن نفسه التي بين جنبيه، يقول الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]، ويقول سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
قال القاضي عياض: "فكفى بهذا حضّا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ، إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله".
أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))، وأخرج البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
كيف لا نحبه والجبال والشجر تحبه وتسلم عليه؟! عن علي بن طالب قال: كنا مع النبي بمكة، فخرجنا معه في بعض نواحيها، فمررنا بين الجبال والشجر، فلم نمرّ بشجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي.
وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: بينا نحن نسير مع رسول الله فنزلنا منزلاً، فنام النبي ، فجاءت شجرة تشقّ الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له ذلك، فقال: ((هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم علي، فأذن لها)) رواه أحمد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي ورجال أحمد وأبي نعيم والبيهقي رجال الصحيح.
وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله يصلّي إلى جِذع ويخطب إليه، إذ كان المسجد عريشًا، فقال له رجل من أصحابه: ألا نجعل لك عريشًا تقوم عليه يراك الناس يوم الجمعة وتسمع من خطبتك؟ قال: ((نعم))، فصنع له الثلاثة درجات هنّ اللواتي على المنبر، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ، قال: فلما جاء رسول الله يريد المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدّع وانشق، فرجع إليه رسول الله فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وفي رواية: فلما قعد نبيّ الله على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتجّ المسجد حزنًا على رسول الله ، فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله سكن، ثم قال: ((أما والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة)) حزنا على رسول الله فدفن. رواه الإمام الدرامي قال الوادعي: "والحديث صحيح على شرط مسلم، وأصله عند البخاري وأحمد وغيرهما".
وعن أنس بن مالك قال: خرجت مع رسول الله إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي راجعًا وبدا له أحُدٌ قال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) متفق عليه.
كيف لا نحبه وهو النور الذي يهدينا الطريق؟! يقول الحق تبارك و تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151]. فهو من عرّف الأمةَ الطريقَ الموصل لهم إلى ربهم ورضوانِه ودارِ كرامته، ولم يدع حسنًا إلا أمر به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه.
ويقول جل شأنه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].
عن أبي سعيد الخدري قال: لما أصاب رسولُ الله الغنائمَ يومَ حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن للأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجدَ هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي ـ والله ـ رسول الله قومه، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، فقال: ((فيم؟)) قال: فيما كان من قَسْمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن لهم من ذلك شيء، فقال رسول الله : ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: ما أنا إلا امرؤٌ من قومي، قال: فقال رسول الله : ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني))، فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ((يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم))، قالوا: بلى، ثم قال رسول الله : ((ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!)) قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك المَنُّ لله ولرسوله؟ قال: ((والله، لو شئتم لقلتم فصَدَقتم وصُدِّقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك))، فقالوا: المنّ لله ولرسوله، فقال رسول الله : ((أوَجَدتم في نفوسكم ـ يا معشر الأنصار ـ في لُعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضَون أن يذهبَ الناس بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شِعبًا وسلكت الأنصار شِعبًا، لسلكتُ شعبَ الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار))، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا وبرسوله قسما، ثم انصرف وتفرقوا. [البداية والنهاية (4/258)].
كيف لا نحبه وهو رحمة الله للعالمين؟! أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن جعفر قال: ركب رسول الله بغلته وأردفني خلفه، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار فإذا فيه ناضِح له، فلما رأى النبي حنّ وذرفت عيناه، فنزل رسول الله فمسح ذفراه وسراته فسكن، فقال: ((من ربّ هذا الجمل؟)) فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال: ((ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكاك إليّ وزعم أنك تجيعه وتدئبه)) قال الوادعي: "صحيح على شرط مسلم وقد أخرج بعضه".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل لرسول الله : ادعُ على المشركين، قال: ((إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة))، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
|